يعتقد كثير من الناس أن الشعوب السوداء ليس لها تاريخ، أي أن تاريخها محكي. من المهم أن يعرف العالم أن لدى الأفارقة السود تاريخا مكتوبا. الكثير يجهل عن المخطوطات في أفريقيا، بل إن الكثير يجزم بأن أفريقيا لم يكن لها صيت في العلوم غير أن الحقيقة عكس ذلك، حيث إنه قبل 5000سنة إلى 4000 سنة وعلى امتداد أفريقيا السوداء الشاسع من السودان ومرورا بالغرب إلى دول المغرب العربي وجنوبها مالي والنيجر إلى أقصى جنوبها مرورا بسهول السافانا ما كان يعرف بتقاطع الحضارات، كلها عرفت حضارات متعاقبة وتركت بصماتها في التاريخ وكان لها نصيب في الإنتاج الفكري والعلمي لا ينكره أحد. إن مدينة تمبكتو درة الحضارة في أفريقيا الغربية، والتي تقع على طرف أقصى المنحى الشمالي لنهر النيجر قبل أن ينحدر إلى الجنوب الشرقي عبر الصحراء، وتبعد المدينة حوالي عشرة كيلو مترات من النهر، وتنتشر على رقعة صحراوية رملية، وتطمس الرمال آثار تلك العاصمة التجارية والثقافية العظيمة التي كانت حاضرة الصحراء على مدى قرون عديدة. تأسست تمبكتو في نهاية القرن الخامس الهجري «الحادي عشر» الإفرنجي، أسسها الطوارق، وأعطوها اسمها، حيث كان هؤلاء يقصدون هذه البقاع قرب النهر بحثًا عن المراعى لمواشيهم، وكان المسافرون القادمون بالطرق البرية عبر الصحراء أو الذين يأتون عبر النهر، يلتقون هناك عند تمبكتو لتبادل المنافع الاقتصادية. وقد زار الرحالة -ابن بطوطة- هذه المدينة، أثناء رحلته إلى بلاد السودان الغربي، وتحدث عن النشاط الثقافي والاقتصادي والسياسي لهذه المدينة، وكان ذلك في عام 754ه، كما زارها الحسن بن محمد الوزان الفاسي المسمى «ليون الأفريقي» في رحلته إلى بلاد السودان التي صحب فيها عمه في مهمة سفارة بين ملك فاس محمد الوطاطى وملك السنغاى محمد اسكيا الكبير في عام 917 ه وجاء في كتابه الشهير «وصف أفريقيا « بأن اسم هذه المدينة حديث وأن منسى سليمان قد بناها عام 615 ه، على بعد نحو 12 ميلا من أحد فروع نهر النيجر، والمقصود هنا هو توسيع وإعمار هذه المدينة في عهد ملوك إمبراطورية مالي. ولا شك أن أكثر ما تزدهر به تمبتكو في ذلك الوقت هو التجارة فقط أكثر من أي شيء آخر، ولكن الأهمية ازدادت يوما بعد يوم، حينما صارت إلى جانب تلك الخاصية عاصمة للعلم، فصار فيها ذلك التزاوج الذي جعلها في مصاف كبريات مدن العصر في ذلك الوقت. ويعتقد البعض أن ذلك النشاط تضاعف كثيرا بعد سقوط آخر معاقل الأندلس (غرناطة)، وقد ظلت تمبتكو مع ذلك التميز صامدة أمام كل الأهوال التي تعصف بها . إن في تمبكتو حوالي 000 200 مخطوطة قديمة كتبت بخط يدوي منمق كان الغرض من بعضها تعليم الفلك أو الرياضيات بينما بعضها يحكي قصصا من الحياة الاجتماعية ومن دنيا الأعمال في تمبكتو أثناء «عصرهاالذهبي» عندما كانت مركزا للتعلم في القرن السادس عشر. وتشهد هذه الكنوز التي لا تقدّر بثمن، والتي يرقى أقدمها إلى القرن الثالث عشر، على أن تاريخ أفريقيا ليس شفهيًا فحسب. فأمامنا أبحاث في الحكم السليم، ونصوص حول أضرار التبغ، وملخَّص دستور الصيدلة... مؤلفات في القانون (لا سيما بشأن الطلاق والأوضاع القانونية للمطلِّقات)، وعلم اللاهوت، وقواعد اللغة، والرياضيات، تتكدّس تحت غبار المكتبات الخاصة، ومعهد أحمد بابا للدراسات العليا في تمبكتو. وما زالت الملاحظات الخطية لعلماء قرطبة وبغداد وجنة بادية للعيان. على الرفوف المسيَّجة، تطالعك أحكام قانونية، تشهد على النشاط التجاري الكثيف في تلك الحقبة. كما أن بيع وتحرير الرقيق، وأسعار الملح والتوابل والذهب والريش كلها واردة في المخطوطات الرقيّة المسندة إلى مجموعة من الرسائل المتبادلة بين حكّام ضفتي الصحراء، والمزيَّنة بالزخارف الذهبية. وقد كان اسم تمبكتو مثيرا للفضول والخيال الغربي إلى درجة المغامرة المميتة، وقد شد أكثر من مستكشف غربي رحاله إليها خلال القرن التاسع عشر، ومنهم مَن هلك قبل الوصول، مثل الإنجليزي: غوردن لنغ، ومنهم من نجى، مثل الفرنسي: روني كاييه بعد رحلة أفريقية استغرقت أربع سنوات انطلاقا من السنغال، إصراره على نجاح المغامرة جعله ينتحل شخصية شاب عربي رباه جنود نابليون، لكن المغامرة التي كادت أن تفشل هي التي قام بها الألماني: هنريك بارت والذي انتحل شخصية شاب مسلم هو الآخر. وقد أثارت استضافة المستكشف الألماني جدلا اضطر فيه مضيفه وهو أحد العلماء إلى إصدار فتاوى على أساس أنه مستجير ونظم قصيدة تبرئ صاحبه من الخيانة والتجسس. أنشئت جامعة في تمبكتو وهي جامعة سانكوري، التي بنتها امرأة ثرية في القرن الخامس عشر، وكانت تُدَرّس فيها كل المعارف والعلوم والتعليم، كانت منظمة في أربعة أطوار، السنة الرابعة يبدأ التعليم الأكاديمي وعندما ينتهي الطالب من تعليمه يجلس إلى أربعين شيخا أو معلما يمتحنونه وعندما يجتاز الامتحان يمنحونه دبلوما أو إجازة، ثم يمنحونه عمامة ذات دلالة أكاديمية، إذا وُضِعت شكل كحرف الألف فهذا يعني أن الطالب حذا إجادة في النحو وإذا أدرتها كحرف اللام تعني إجازة في الجغرافيا ثم تكرر حرف اللام يعني إجازة في الرياضيات مثلا وهذه الاستدارة كحرف الهاء تعني إجازة أخرى والحروف مجتمعة تشكل لفظة الجلالة الله وعقب الامتحان يمكن للطالب أن يفسر معاني القرآن هذه الرمزية نجدها فقط في جامعة سانكوري. كان ثمة تبادل علمي بين معاهد تمبكتو ومعاهد البلدان الإسلامية الأخرى في المغرب والصحراء الكبرى والأندلس، وكانت معاهد المغرب التعليمية أعرق من معاهد غرب أفريقيا. ولذا؛ حرص طلبة العلم من غرب أفريقيا على النهل من علمها. وأسهم السلاطين في إرسال البعوث العلمية إلى هذه المعاهد، فتشير الكتب إلى أن السلطان المالي: منسا موسى أرسل العالم كاتب موسى -الإمام والمدرس بجامع تمبكتو- إلى فاس،ليتلقى مزيدًا من العلوم الإسلامية، وعندما اشتهرت هذه المعاهد، وفد عليها كثير من الطلبة من بقاع شتى في غرب أفريقيا لتلقي العلم على مشايخها، ومنهم الفقيه مخلوف بنعلي البلبالي، وكذلك عُرف العلماء الودانيون (من إقليم وَدان) في معاهد تمبكتو، منهم سيدي أحمد الغزالي بن محمد بن محمد بن يعقوب الحاجي اليعقوبي الوداني، الذي تتلمذ على والد أحمد بابا التمبكتوي. وعندما زار ابن بطوطة دولة مالي -في حوالي منتصف القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي)- التقى عددا من علماء شمال أفريقيا المقيمين بمدنها، مثل تمبكتو، ومنهم محمد بن الفقيه الجزولي، وصهره الفقيه المقرئ: عبد الواحد. وجذبت الحركة التعليمية في مساجد تمبكتو بعض علماء الأندلس، أمثال: علي بن أحمد بن محمد بن عبد الله الوادي آشي (ت 724ه- 1323م)، والد ابن الملقن التكروري (ت 804ه- 1401م) صاحب كتاب طبقات الأولياء، ومارس عليّ التدريس، لاسيما اللغة العربية، ثم ارتحل إلى القاهرة، وأنجب فيها ابنه المعروف باسم ابن الملقن. وذكرت المصادر أن أهم بعثة تعليمية جاءت من تمبكتو المالية إلى بلاد الهوسا والبرنو، هي البعثة الونغارية، وكان أفرادها من ركائز معاهد تمبكتو، وأخذ العلماء التمبكتويون -منذ ذلك الحين- يتوافدون على بلاد الهوسا والبرنو، أمثال الفقيه مخلوف البلبالي والتاذخني، ومنهم من أسس معاهد تعليمية في هذه المنطقة، مثل معهد الحنبليين في كاتسينا. إن كل هذا يبين أن الذاكرة الأفريقية ليست شفاهية فحسب. إنه تراث يثير مشاعر الخوف والدهشة في آن معًا، إلى حدّ يشعر فيه الباحثون أنفسهم بالارتباك إزاء هذا الكمّ من المعارف المتيسرة. ويوضح جورج بوهاس، أستاذ اللغة العربية في «المدرسة العليا» في ليون وأحد مطلقي برنامج «فيكماس» (تقويم ونشر المخطوطات العربية لمنطقة أفريقيا جنوب الصحراء) قائلاً «إن مجموعة المخطوطات المتوفرة تقدَّر ب000 180 مجلد، وكان 25% فقط منها موضع جرد، و10% موضع فهرسة، فيما 40% ما زال داخل حقائب من خشب أو حديد!» هذا عدا عن جميع المخطوطات المخبَّأة في المنازل والتي لا يرغب المحتفظون بها رفع اليد عنها»