يعرب الزعماء الاميركيون، ومن بينهم الرئيس الاميركي وليم كلينتون، في مناسبات متعددة عن رغبتهم في تنمية العلاقات مع الشعوب الاخرى، وعن احترامهم لمبادئ العلاقات الدولية القائمة على المساواة بين الامم وعلى حقها في تقرير مصيرها. كذلك يبدي هؤلاء الزعماء حرصهم على تنمية العلاقات مع الدول العربية وعلى احترام مصالحها وارادتها. هذه الاعلانات تفسر جانباً من سياسات واشنطن الدولية ومواقفها تجاه المنطقة العربية، ولكنها لا تفسر كل هذه المواقف. وحتى يفهم المرء بعض مواقف واشنطن وسياساتها تجاه المنطقة تبدو الداروينية الاجتماعية التي تقترن بأفكار التفوق العنصري والاثني واضمحلال نمط من الشعوب والامم وبقاء الاقوى والافضل، هي المدخل الافضل للوصول الى الغاية المتوخاة. هذه المواقف والسياسات تذكر بآراء بعض ساسة الغرب في القرن التاسع عشر الذين كانوا يظنون ان بعض العناصر والاقوام هي في طريقها الحتمي الى الزوال وأن أقصى ما تفعله الشعوب المتحضرة والحكومات "المسؤولة" تجاهها هو ان "تعجل في مواتها حتى تريحها من آلامها"، او كما قال واحد من المعمرين "الانسانيين" في حديثه عن شعب الماوري في نيوزيلندا "ان واجبنا الصريح، كمعمرين طيبين تمتلئ قلوبنا بالرأفة والرحمة، هو ان نضع لهم وسادة الموت تحت رؤوسهم". الداروينية الاجتماعية تبدو هي المدخل الافضل لفهم بعض المواقف الاميركية من عملية الاستيطان الصهيوني في الاراضي الفلسطينية. فعندما بدأ الاسرائيليون في بناء المستوطنات في الضفة الغربية والقطاع بعد احتلالهما عام 1967، اثار هذا العمل ردة فعل ساخطة وعنيفة بين الفلسطينيين والعرب. والادارات الاميركية المتعاقبة سعت الى تهدئة هذه النقمة بالاشارة الى عدد المستوطنين القلائل الذي لم يكن ليبدل الطابع الديموغرافي في الضفة والقطاع. الآن ارتفع هذا العدد بحسب احصاء وضعته "مؤسسة السلام في الشرق الاوسط" الى حوالي 350 الفاً يعيش نصفهم في القدسالشرقية، وهو ينمو باستمرار بفضل المستوطنات التي تنهمك الحكومات الاسرائيلية حكومات العمل وليكود ببنائها. الادارة الاميركية لا تحبذ التوسع الكثيف في بناء المستوطنات ولكنها، من جهة اخرى، لا تستطيع الضغط على حكومات اسرائيل كما تضغط حالياً على حكومة الصرب مثلاً. لماذا؟ لأن اسرائيل "دولة ديموقراطية" والدول الكبرى تستخدم الضغط والتلويح بالقوة عندما تتعامل مع حكومات غير ديموقراطية، أما مع الحكومات الديموقراطية - مثل حكومة اسرائيل - فإنها تستخدم اسلوب الاقناع! مادلين اولبرايت، وزيرة الخارجية الاميركية، تحاول اقناع حكومة نتانياهو بالعودة الى مبادئ اتفاق اوسلو تمهيداً لايقاف او ابطاء عملية الاستيطان. الا ان نجاح هذا المسعى مشروط، من وجهة نظر اميركية، بقيام السلطة الفلسطينية بالاستجابة الى الطلبات الاسرائيلية المتعلقة بأمن اسرائيل. الكرة اذن هي في المرمى الفلسطيني. اذا لم تفكك السلطة الفلسطينية "البنية التحتية" لحماس والجهاد الاسلامي، فإنها تضعف قدرة "راعي عملية السلام" على اقناع حكومة نتانياهو بتجميد او ابطاء عملية قضم الاراضي الفلسطينية. دلّت التقارير عن اوضاع الامن الاسرائيلي الى تراجع في مستوى ونوعية اعمال العنف التي يقوم بها الفلسطينيون ضد الاسرائيليين. ان عدد الذين تضرروا من حوادث السيارات، بحسب هذه التقارير، هو اكبر من الذين تضرروا من حوادث العنف الفلسطيني. ولا يذكر زعماء ليكود هذه الارقام والاحصاءات عندما يخاطبون الرأي العام العالمي، لكنهم يفاخرون بها عندما يتحدثون الى الرأي العام الاسرائيلي باعتبار انها من انجازات حكومتهم والاجهزة الامنية الاسرائيلية. الشيخ احمد ياسين، زعيم حماس، قال في مؤتمر صحافي عقده في غزه مطلع تشرين الأول اكتوبر ان هذا الواقع ليس من صنع اجهزة الامن الاسرائيلية وحدها، وانما هو أيضاً من عمل اجهزة السلطة الفلسطينية "التي تعتقل رجال حماس، وتصادر اسلحتهم، وتحبط عملياتهم". هل تقنع هذه المعطيات اولبرايت بأن السلطة الفلسطينية تقوم "بخطوات عملية" من اجل حماية الامن الاسرائيلي؟ هل تقتنع وزيرة الخارجية الاميركية، بما قبلت به وكالة الاستخبارات الاميركية المركزية بأن هناك مشكلة امن متبادل فلسطينية - اسرائيلية، وبأن على الاسرائيليين القيام ايضاً بخطوات عملية لحماية الفلسطينيين، واستطرادا بأن هناك ارهاباً اسرائيلياً مثلما ان هناك ارهاباً فلسطينياً او عربياً؟ الارجح ان اولبرايت لن تقتنع، خصوصاً بالنقطة الاخيرة وإلا لوجدت حرجاً في التعامل مع آرييل شارون الذي اختاره بنيامين نتانياهو وزيراً للخارجية في حكومته بحكم "خبرته الغنية، وابداعه، وسحله المعروف". تلك "الخبرة الغنية" جعلت المجندين الاسرائيليين انفسهم يلقبون شارون بپ"الجزار" بسبب طريقة معاملته للجنود المصريين في حرب عام 1967. أما سحله فمعروف تماماً في حرب لبنان ومجزرة صبرا وشاتيلا عندما كان يشرف من برج قريب للمخيم الفلسطيني - اللبناني على عملية ذبح النساء والاطفال والرجال العزل والمسنين. بل ان السيدة اولبرايت ستواجه حرجاً مماثلاً في التعامل مع اعضاء آخرين من حكومة نتانياهو مثل رفول ايتان الذي كان، بصفته قائدا للجيش الاسرائيلي عام 1982، شريكاً لشارون في تدبير المذابح، أو أعضاء آخرين ينتظرون فرصتهم في المستقبل لكي يكتسبوا فيها خبرة غنية تشبه خبرة آرييل شارون. ان اولبرايت والطاقم الاميركي المشرف على عملية السلام قد يجدون صعوبة في التعامل مع اشخاص يملكون "سجلات معروفة" من امثال اعضاء الحكومة الاسرائيلية الحالية، الا أن اقناعهم بالتجاوب مع المساعي الاميركية بصدد "مساعي السلام" قد لا يكون مستحيلاً اذا ما طلب منهم أن يروا الغابة وليس فقط الاشجار، وان يفهموا السياسة الاميركية واهدافها بالجملة وليس بالمفرق، اي ان يفهموها كما شرحها السيد آل غور نائب الرئيس الاميركي العام الفائت في مؤتمر منظمة "ابياك" المؤيدة لاسرائيل. قال آل غور لاعضاء المنظمة ان من اجل حماية الامن الاسرائيلي ومصالح الولاياتالمتحدة - وليس من اجل أي سبب آخر - تفرض واشنطن العقوبات على العراق والسودان وليبيا وايران، وانه من اجل حماية امن اسرائيل ومصالح الولاياتالمتحدة امرت واشنطن بقصف العراق بالصواريخ. قد لا يكون مستحيلاً أن يقتنع صقور السياسة الاسرائيلية بصواب هذه السياسات طالما أنها، في نهاية المطاف وفي احسن الحالات، تهدف الى "وضع وسادة الموت تحت رؤوس اعداء اسرائيل واعداء الصهيونية". يعاني العراقيون من جراء هذه السياسة وبسبب "اقسى نظام عقوبات عرفه التاريخ البشري" آلاما رهيبة. آخر ضحايا واقع العراق الراهن هو دنيس هاليداي منسق برنامج "النفط مقابل الغذاء" الذي اعلن استقالته احتجاجاً على سياسة العقوبات والحصار وما تفضي اليه من وفاة سبعة آلاف عراقي شهرياً، وما تسببه من اذى كبير لسائر العراقيين، بيد ان موقف هاليداي ليس فريداً من نوعه، فهناك العديد من العاملين في المجالات الانسانية من وجد نفسه عاجزا عن تحمل مشاهد ووقائع الأتون العراقي، فآثر الانتقال الى مكان آخر حاملاً معه خزيناً لا ينضب من حالات الاكتئاب. جيف سيمونز، الكاتب البريطاني، وصف هذه المشاهد والوقائع بدقة في كتابه "التنكيل بالعراق" الذي نشره مؤخراً "مركز دراسات الوحدة لعربية". الصورة التي يرسمها الكتاب للواقع العراقي لا تتحدث عن اثر نظام العقوبات على العراقيين فحسب، وانما تقدم تقارير ومعلومات مفصلة عن الموقف الاميركي الذي يهدف الى مضاعفة أثر العقوبات عن طريق الافادة من الثغرات في آليات تنفيذه. فنظام العقوبات يسمح للعراق، مثلاً باستيراد المواد التي تلبي الحاجات الاساسية لمواطنيه. الا ان لجنة العقوبات، بتأثير من مندوبي واشنطن، تعمدت رفض السماح للعراق باستيراد العديد من هذه المواد، منها كما بيّن سيمونز، مواد غذائية وطبية ودراسية وصحية. بل انه إمعانا في قهر العراقيين رفضت اللجنة عام 1993 السماح للعراق بشراء مواد لتكفين الموتى. فسر المسؤولون الاميركيون هذا الموقف احياناً بأنه تعبير عن الرغبة في الضغط على العراق من اجل تنفيذ قرارات مجلس الامن خصوصاً لجهة نزع سلاح الدمار الشامل، كما حملوا مرارا القيادة العراقية مسؤولية تمديد نظام العقوبات بسبب امتناعها عن تنفيذ هذه القرارات. في بعض الاحيان ربما كانت واشنطن على حق اذ بدا ان العراقيين يحاولون الحفاظ على قسم من الصناعات العسكرية التي بنوها خلال الحرب مع ايران. الا ان هذه المسألة لم تعد هي الاساس في الموقف الاميركي من نظام العقوبات منذ اعلنت اولبرايت في آذار مارس من العام الفائت ان العقوبات ستبقى الى ان ترحل القيادة العراقية الحالية عن الحكم، وهو ما لم يتضمنه أي قرار من قرارات مجلس الامن. يتعرض السودان ايضاً، مثل العراق، لعقوبات اقتصادية وضغوط متنوعة، نظام العقوبات المطبق على السودان لا يصل، من حيث عنفه الى مستوى العقوبات نفسه المطبق على العراق، ولكنه يسبب ضرراً كبيراً لبلد يعاني، اساساً، من مشاكل اقتصادية ومن حرب أهلية، ومن محدودية الموارد المالية، هذه العقوبات تساهم في تأزيم مشكلة المجاعة وفي هلاك عشرات الالوف من السودانيين. كذلك تفاقم هذه المشكلة الضغوط العسكرية والاقتصادية والسياسية التي تمارسها، بتأييد وتشجيع من الادارة الاميركية، حكومات اوغندا واثيوبيا واريتريا، فضلاً عن المتمردين المؤيدين لجون قرنق في جنوب السودان، على سلطات الخرطوم. ان هذه الضغوط تستنزف طاقات السودانيين وتجبرهم على تحويل قسم كبير من الموارد المادية التي يملكونها، ومن الطاقات البشرية الى ساحات القتال بدلاً من توجيهها لمحاربة المجاعة وتوفير الغذاء والحاجات الاساسية للسودانيين. تتعرض هذه السياسات للانتقاد، بين الوقت والآخر، من جماعات متنورة ومنصفة في الولاياتالمتحدة وفي الغرب ومن المجتمع الدولي. ومن اجل اسكات هذه الانتقادات تطلق احياناً روايات ترمي الى تحميل السودانيين والعراقيين والفلسطينيين، اي الآخر العربي، مسؤوليتها، اي مسؤولية العقوبات وحالات الحصار. فقبل مراجعة مجلس الامن نظام العقوبات على العراق في مطلع الصيف الفائت، اطلقت رواية عثور مختبر اميركي على غاز الاعصاب القاتل "في. اكس" على الصواريخ العراقية. وبعد تدمير مصنع الشفاء في السودان، اطلقت الروايات حول علاقته بأسامة بن لادن، وانتاجه الغازات القاتلة. لقد اكتشفت مختبرات فرنسية وسويسرية بعدها ان الصواريخ العراقية لا تحمل "في. اكس" كذلك اكتشفت وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية ان المعلومات التي استند اليها في تدمير مصنع الشفاء كانت غير موثوق بها "ملفقة"، كما جاء في هيرالد تريبيون 24/9/1998، الا ان القصف الاعلامي حقق غرضه لحظة وقوعه، اذ ساهم في خلق مناخ ملائم سياسي في الغرب على الاقل يبرر معاقبة العراقيين والسودانيين. وهذا القصف الذي توجهه عقول سياسيين غربيين لا يجدون في العرب اكثر من عقبة تعترض تبوء اسرائيل الزعامة الاقليمية المطلقة سوف يستمر طويلا. سوف يستمر القصف العسكري والاعلامي والسياسي حتى يدرك هؤلاء السياسيون انه ليس في نية العرب ان يضعوا رؤوسهم على وسادة الموت. * كاتب وباحث لبناني