انقطعت أخبار ياسمينة دمشق الأسطورية الأديبة العربية المبدعة غادة السمان فترة من الزمن خلناه سنيناً تشبهاً بهاتفها الباريسي الذي "يرن" باستمرار ولا من مجيب. وبالأمس هطلت علينا غادة حاملة أمطار البهجة والفرج والإبداع كعادتها بعد كل غيبة ومعها كتابها الجديد "القلب نورس وحيد" و"نشرة أخبار" خاصة لا قتل فيها ولا زلازل ولا مآسي ولا تنازلات عربية جديدة بل فيها بشرى سارة بأن كتاب "القمر المربع" الذي كتبت عنه يوم صدوره سيصدر بترجمته الإنكليزية قريباً بعد فوزه بجائزة الكتاب المترجم من جامعة أركنساس الأميركية وهو الكتاب الثالث لغادة الذي يترجم الى الإنكليزية وقريباً أيضاً سيصدر الرابع "رواية ليلة المليار" في "القلب نورس وحيد" تعيدنا غادة السمان الى أدب الرحلات وهو الثالث لها في مجاله بعد "الجسد حقيبة سفر" و"شهوة الأجنحة"، وهو الثاني والثلاثون في مجالات الرواية والشعر. ورحلات غادة لا تنتهي ولكن الذي استوقفني في كتابها الجديد حنينها الأموي الأندلسي وكأنه حنين الى الشام وبيت الآباء والأجداد... بيت العائلة الأصيل وهي تقول في وصف هذا الحنين: لعلي جئت الى الأندلس كما ذهب مجنون ليلى يطلب جمراً وناراً. فقد علموني في المدرسة أن العرب لم يغزوا الأندلس بالقوة العسكرية بل بسلطة الحضارة أولاً وبمشعلها الذي حملوه ذلك الزمان. ولم يستتب لهم الأمر هنا قروناً بسطوة السجان بل بسطوة الفكر المتفوق. وربما كان علينا أن نعيد امتلاك أنفسنا وأوطاننا مارين بهذه الدرب ذاتها، وبقوة الحضارة والضوء الداخلي، والعطاء الإنساني وجوهرة الحرية والتسامح، لا بسطوة السجَّان والسوط والقمع. كأنني لم أحضر الى الأندلس للبكاء على أطلال الماضي بل جئت وعيني على المستقبل. ولكن خل عينيك تدمعا وأنت ترافقني"!! وتمضي غادة في رسم صور الجماليات الأندلسية بكلماتها المعبرة ففي أشبيلية تجد مهرجاناً من الحب والجمال يركض في الشوارع والأزقة القديمة، وكل ما حولك يتدفق ضوءاً وحباً كزهر اللوز في الربيع، بالرغم من أن لوركا يؤكد كل لحظة للحلوة أدلين التي تتمشى، أن لا حب في أشبيلية، وينشد: "البحر لا برتقال فيه/ وإشبيلية بلا حب. يا سمراء، أي نور نيراني/ أعيريني مظلتك/ إن وجهي يخضر بعصير النارنج والليمون/ كلماتك سمكات صغيرة تسبح حولي/ البحر لا برتقال فيه يا حبيبتي وإشبيلية بلا حب"... ولا تتفق مع لوركا هذه المرة، ولكنك تردد له قصيدة أخرى وأنت تتمشى ليلاً، فتطلع عليك لافتة مضيئة كالرؤيا تحمل اسم دمشق... فدمشق حاضرة في اشبيلية لا في قلبك وحده، ولا كإسم لشركة سفريات ومطعم وزقاق، بل متغلغلة في ثنايا المرئيات كحضارة وإبداع وعراقة... ألم يستدع عبدالرحمن الثاني المهندس السوري الأصل عبدالله وهو ابن المعماري الشهير سنان كي يقوم بتشييد قصره: تلك التحفة الخالدة؟! وفي كل موقع أندلسي تجد مناخاً شامياً، ونهر الوادي الكبير يذكرك ببردى لأسباب غامضة، الأغاني والمواويل تذكرك بتلك التي فتحت عينيك عليها في دمشق. وعلى أطلال مدينة الزهراء تراءى لها ابن زيدون يناجي ولادة قائلاً: إني ذكرتك بالزهراء مشتاقاً والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا وللنسيم اعتلال في أصائله كأنه رقَّ لي فاعتل إشفاقا! وفي قصر الحمراء، وهو قصر كالحلم نصفه في الماء ونصفه الآخر فوق الأرض، تبكي لحال العرب الذين باعوا ذكرى أجدادهم المرهفين الأذكياء الذين بنوا إحدى قمم الحضارة العربية الإسلامية. والعربي الذي يزور قصر الحمراء اليوم يبكي مجدداً الفردوس المفقود: كيف كنا وكيف صرنا كيفما تحرك في قصر أحد أجداده العرب: يا زمان الوصل في الأندلس. كان ذلك زمان الوصل مع العطاء والرجابة والأفق والعز وطراوة العيش والمحبة والإبداع. وكان يا ما كان. وأتوقف عند هذا الحد من الكلام المباح لأترك الكلام لغادة... شهرزاد العصر تحدثكم عبر "القلب نورس وحيد"!!
حلجة أيها الصوت الهادر الذي يهزني من الوريد الى الوريد ويوقظ أعماقي شكراً لجميلك وشكراً لجمالك فلولاك ما كنت صمدت!