يا دارَ مَيّة بالعَليْاءِ فالسَّنَدِ أقْوَتْ وطالَ عليها سالفُ الأبَدِ وقفتُ فيها أُصَيلاناً كي أُسائِلها عَيّتْ جواباً وما بالرَّبعِ من أحدِ أمستْ خلاءً وأمسى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أخنى على لبدِ هكذا عبر الشاعر العربي عن حنينه لأيام شبابه وربيع عمره، إذ لطالما قرن الشعراء العرب بين ماضيهم السعيد وبين أوطانهم، التي هجروها وهاجروا عنها، لظروف هي في الغالب ظروف خارجة عن إرادتهم ورغباتهم، والمطلع على دواوين شعراء العرب في ماضيهم وحاضرهم، لا يعدم الاستمتاع بقصائد التعبير عن الوجدان والحنين إلى الأوطان، والتي قسّم فيها النقاد هذا الغرض الشعري إلى شعر مشرقي حمل لواء الشعراء العباسيون في العراق، وشعر مغربي انفرد الأندلسيون بريادته، إلاّ أننا في العصر الحديث نقف أمام المدن والبلدان على النهج الشرقي في الحنين، وتذكر الديار وأيام الصبا والشباب، مع نماذج أخرى وجدت في ظروف الأمة وما مر بها من أزمات ضرورة شعرية حتّمت عليها النهج المغربي، الذي لطالما ناح به الأندلسيون حين رثائهم المماليك والمدن الأندلسية، التي كانت تتهاوى أمام ضعف وخور ملوك الطوائف آنذاك في شبة الجزيرة الأيبيرية. حنين ورثاء انفرد الشعر الجاهلي بالحنين إلى أيام الصبا وتذكر الديار الدراسة والأطلال الداثرة، حيث حنين العربي القديم لمنازله الأولى التي أوجبت عليه ضرورة الوقوف على الأطلال، وتذكر المعشوقة ووصف الراحلة التي نقلته إلى الديار الخالية، حيث اعتاد العربي على التنقل والترحال، إلاّ أنّ ديار الصبا ومراتع الحب والهوى، تظل دائماً هي المحرك الأساس لوجدانيات هذا الشاعر أو ذاك، فمن وقوف "امرؤ القيس" على أطلال منزله وهو يقول: قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل إلى حنين "النابغة" إلى ديار صباه، حيث قال: كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب انفرد به الأندلسيون في المغرب وحمل لواءه العباسيون في المشرق.. وبقي «السعودي» هائماً في تفاصيل ذكرياته على أنّ هذا الحنين والتمسك بضرورة رثاء مواطن الصبا والشباب لم يقف على العصر الجاهلي، بل استمر إلى صدر الإسلام والعصر الأموي، ولعل السبب في قصر هؤلاء الشعراء مراثيهم وجميل قصائدهم على الحنين لأيام ومنازل الصبا والشباب، كان بسبب أن العربي حينها كان رحالاً متجولاً في معظم أيام حياته، لا سيما وأنّ سكان المدن حينذاك يحظون باستقلاليتهم التامة، إذ لم تذكر لنا حروب العصر الجاهلي نزوح الأهالي عن المدن التي سكنوها؛ بسبب أنّ معظم هذه المدن لم تكن في الغالب خاضعة لسيادة قبائل متعددة، بل أنّ لكل قبيلة مدنها وحواضرها، كما كان لكل قبيلة بواديها الخاصة بها، ولم تذكر لنا كتب الأدب ولا حتى التاريخ عن نزوح جماعي لقبيلة من موطنها، إلاّ ما حدث لقبيلة "جرهم" حين أخرجها "بنو إسماعيل" -عليه السلام- من مكة، حيث لم تكن مكة أرضهم، ولكنهم ملكوها فيما بعد، وأبعدهم عنها أهلها من "بني إسماعيل" -عليه السلام-، ولذلك قال زعيمهم "مضاض بن عمرو" يرثى أيامهم في مكةالمكرمة، ويصف حاله في الغربة وحال قومه وهو يقول: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس و لم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر وأبدلنا منها الأسى دار غربة بها الذئب يعوي والعدو محاصر وكنا لإسماعيل صهراً وجيرة فأبنائه منا ونحن الأصاهر عشق قديم وفي العصر الأموي يبرز لنا "جحدر بن مالك من بني حنيفة"، والذي كان لصاً فاتكاً قاطعاً للطرق، حتى عجز "الحجاج بن يوسف" أن يظفر به، ما جعله يوبخ عامله باليمامة على عدم استطاعته القبض على "جحدر"، وهو ما دفع الوالي أن يحتال على هذا اللص بعد أن أرسل إليه مجموعة من الشباب من بني يربوع، وأغراهم بالمال حتى ظفروا بالرجل، الذي كان يغير على بلاد "حجر اليمامة" -الرياض حالياً- وينهب أهلها، ولما طال بقاء جحدر في سجن الحجاج، تذكر بلاده في أرض نجد فحن لها ولأيام اليمامة فقال يرثى نفسه: ومما هاجني فازددت شوقا بكاء حمامتين تجاوبان تجاوبتا بلحن أعجمي عَلَى غصنين من غرب وبان فكان البان أن البان سليمى وفي الغرب اغتراب غير داني الحارة التي تركها الأطفال صغاراً يبحثون عن أطلالها كباراً كما كان "مالك بن الريب" قطاعاً للطرق مشهوراً عند القوافل، والمسافرين، بسطوته، ومداهماته، ولكنه تاب، وعاد إلى طريق الهداية، والتحق بجيش "أبان بن عثمان بن عفان"، وجاهد في سبيل الله في بلاد وسط آسيا، وهناك أصيب بجرح مميت، فقال يرثى نفسه لأهله وولده، ويتذكر "وادي الغضا" -القصيم حالياً- ويحن إليه، وهو يقول قصيدته التي أجمع النقاد على أنها فريدة من فرائد شعر الرثاء، لا سيما وهو يقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادي الغضا أزجي القلاص النواجيا الم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا وبالرمل نسوة لو شهدنني بكين وفدين الطبيب المداويا فمنهن أمي وأبنتاها وخالتي وباكية أخرى تهيج البواكيا «العربي» رحال متجول في معظم أيام حياته ولذا عاش «لوعة الفراق» أكثر من «عناق الوصال» ظاهرة جديدة يجمع الأدباء والنقاد أن بداية ما يعبّر عنه البعض بظاهرة رثاء المدن ظهر مع العصر العباسي الأول، حيث حرب "الأمين" و"المأمون"، وإن كانت كتب الشعر والتراجم قد ذكرت شذرات ونماذج من قصائد أخرى متشابهة سبقت هذه الحرب، التي بكى فيها شعراء بغداد على مدينتهم التي كانت توصف بأنها قمر الشرق والغرب، بل وصفها بعض المؤرخين بأنها من محاسن الدنيا في ذلك الزمان، وهو ما دعا عددا كبيرا من شعراء بغداد إلى رثاء مدينتهم التي قال "عمرو الوراق" وهو يرثي حالها مع الحرب: ماذا أصابك يا بغداد بالعين ألم تكوني زماناً قرة العين لله در زمان كان يجمعنا أين الزمان الذي ولى ومن أين بل يرثي الشاعر الكفيف "علي المأموني" حال بغداد في هذه الحرب، وهو يقول: الناس في الهدم وفي الانتقال قد عرض الناس بقيل وقال يا أيها السائل عن حالهم عينك تكفيك مكان السؤال كما رثى "ابن الرومي" مدينة البصرة حين ثورة الزنج، التي أهلكت الحرث والنسل، على أن رثاء المدن لم يقترن فقط بالحروب والمعارك، بل لقد عبر كثير من الشعراء وبخاصة العباسيون عن حنينهم لمدنهم وبلادهم عبر قصائد مشهورة وأبيات مأثورة، لعل من أشهرها قول "أبو تمام" يصف حاله مع الحل والترحال: بالشام أهلي وببغداد الهوى وأنا بالرقمتين وبالفسطاط إخواني ثم يقف كغيره من شعراء زمانه ومن سبقهم، ليبرز فضل دياره في الصبا والشباب على دياره التي يسترزق فيها ويطلب أسباب العيش الكريم، وهو يقول: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل إلاّ أنّ معاصره الشاعر "ديك الجن" يعارضه الرأي والشعر ويرسل له من أرض حمص أبياتاً يقول فيها: نقل فؤادك حيث شئت فلن ترى كهوى جديد أو كوجه مقبل عشقي لمنزلي الذي استحدثه أما الذي ولى فليس بمنزلي ويؤيده في نفس المعنى زميل له غير بعيد عن داره وهو يقول: دع عنك حب أول من كلفت بحبه ما الحب إلا للحبيب الآخر ما قد تولى لا ارتجاع لطيبه هل غائب اللذات مثل الحاضر قساوة الحياة في نجد لم تمنع أهلها من عشقها والعيش فيها مع صغارهم نزار قباني: سارت معي.. والشعر يلهث خلفها كسنابل تُركت بغير حصاد في حين يظهر لهما ثالث تائه بين الحنين إلى الماضي ورغد عيش الحاضر وهو يقول: قلبي رهين بالهوى المتقبل فالويل لي في الحب إن لم أعدل أنا مبتلى ببليتين من الهوى شوق إلى الثاني وذكر الأول ولم يقف رثاء المدن والممالك على القصائد والشعر، بل لقد تجاوزه إلى النثر في فنون المقالة والمقامة والرسائل الأدبية، بل لقد عكف كثير من العلماء والمؤرخين على تأليف وتدوين كتب ضخمة جمعت بعدة أجراء، وأفرغت للحديث عن مدن بعينها، مثل كاتب ابن الخطيب "تاريخ بغداد" و"تاريخ دمشق" لابن عساكر. أندلسيات وإذا كان حال رثاء المدن في المشرق العربي يتسم بالأشواق والحنين، فإن رثاء المدن في المغرب العربي -لا سيما في الأندلس- يقترن دائماً بويلات الحروب والمعارك، إذ لا أدل على ذلك إلاّ رثاء المماليك الأندلسية التي بكاها الشعراء والأدباء، كما بكاها غيرهم وهم يشاهدون الأعداء يقتحمونها ويسقطونها الواحدة تلو الأخرى، حتى لكأن أبيات "ابن العسال" في رثاء "طليطلة" تنبئ عن سقوط "بلنسية" التي رثاها "ابن خفاجة" وهو يقول: عاشت بساحتك العدا يا دار ومحا محاسنك البلى والنار كما رثاها ابن الأبار في حين رثا "ابن سهل" مدينة "أشبيلية" المنيعة، أما أم المراثي وسيدة القوافي، فقد انفرد بها "أبو البقاء الرندي" في نونيته التي رثى فيها الأندلس وراح يقول: لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ هي الأمور كما شاهدتها دُولٌ مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ وهذه الدار لا تُبقي على أحد ولا يدوم على حالٍ لها شان أين الملوك ذَوو التيجان من يمنٍ وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ؟ img src="http://s.alriyadh.com/2014/05/09/img/103367039235.jpg" title=""ابن سهل" رثى مدينة "أشبيلية" المنيعة بعد سقوطها"/ "ابن سهل" رثى مدينة "أشبيلية" المنيعة بعد سقوطها ولم يجاره في جمال المعاني والعبارات ودقة التصوير والمؤثرات، إلاّ حنين لسان الدين الخطيب إلى مراتع الهوى الأندلسي، حين قال وهو يستذكر طيب المقام والمقال في الأندلس: جادك الغيث إِذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأَندلسِ لم يكن وصْلُك إِلاّ حُلُمًا في الكرى أَو خُلسة المختَلِسِ وروى النُّعمانُ عن ماءِ السّما كيف يَروي مالِكٌ عن أنَسِ فكساه الحُسن ثوبًا معلما يزدهي منه بأبهى مَلبسِ ولم يقف الرثاء في المغرب العربي على الأندلس، إذ كان لإخوانهم في بلاد المغرب حديث طويل عن المدن والممالك المغاربية، في مدن فاس ومراكش إلى القيروان وسبتة فهذا الشاعر الحصري يرثي مدينة القيروان عند دخول بني هلال لها فيقول: موت الكرام حياة في مواطنهم فإن هم اغتربوا ماتوا وماتوا ما نمت إلا لكي ألقى خيالكم أين من نازح الأوطان نومات كما حظي عصر الأيوبيين والمماليك بحملة من "مراثي المدن" التي طغت عليها إثارة الهمم والحماس لدى سلاطين ذلك العصر، لاستعادة بيت المقدس المحتل، حيث تسابق الشعراء في الشرق والغرب على رثائه وتحفيز الجميع لاسترداده. شوق وذكريات حظي العصر الحديث بجمل رائعة وقصائد رائقة صنفت من ضمن شعر الشوق والحنين، ولا أدل على ذلك إلّا قصيدة "ابن معصوم المدني" التي يتوجد فيها وهو يذكر أرض الحجاز المباركة فيقول: سقى صوب الحيا أرض الحجاز وجاد مراتع الغيد الجوازي وحيا بالمقام مقام حي كرام في عشيرتهم عزاز هم حامو الحقيقة يوم يدعو حماة الحي حي على البراز سقى الله الحجاز وساكنيه وحيا معهد الخود الكناز الى أهل الحجاز يحن قلبي فوا شوقي الى أهل الحجاز لوحة فنية جميلة عن بيع السجاد في الأندلس أما "نزار قباني" فما زال يعيش حنين السنين الماضيات والأيام السالفات، في حضارة المسلمين في الأندلس، حيث يبكي على أسوار مالقة وأشبيلية، وبين جداول سرقسطة وبلنسية يخاطب تلك الفتاة السمراء العربية، التي أعادت له صحفة من سجلات أمجاده وتاريخ أجداده، على غير ميعاد بينهما، ليعبر من خلال لسانه العربي المبحوح عن آهات الأنين ولهيب الشوق والحنين، لذلك الفردوس المفقود وهو يقول: في مدخل الحمراء كان لقاؤنا ما أطيب اللقيا بلا ميعاد عينان سوداوان في حجريهما تتوالد الأبعاد من أبعاد هل أنت إسبانية؟ ساءلتها قالت: وفي غرناطة ميلادي غرناطة؟ وصحت قرون سبعة في تينك العينين.. بعد رقاد وأمية راياتها مرفوعة وجيادها موصولة بجياد ما أغرب التاريخ كيف أعادني لحفيدة سمراء من أحفادي وجه دمشقي رأيت خلاله أجفان بلقيس وجيد سعاد ورأيت منزلنا القديم وحجرة كانت بها أمي تمد وسادي والياسمينة رصعت بنجومها والبركة الذهبية الإنشاد ودمشق، أين تكون؟ قلت ترينها في شعرك المنساب..نهر سواد في وجهك العربي، في الثغر الذي ما زال مختزناً شموس بلادي في طيب "جنات العريف" ومائها في الفل، في الريحان، في الكباد سارت معي.. والشعر يلهث خلفها كسنابل تركت بغير حصاد يتألق القرط الطويل بجيدها مثل الشموع بليلة الميلاد.. ومشيت مثل الطفل خلف دليلتي وورائي التاريخ كوم رماد الزخرفات.. أكاد أسمع نبضها والزركشات على السقوف تنادي قالت: هنا "الحمراء" زهو جدودنا فاقرأ على جدرانها أمجادي أمجادها؟ ومسحت جرحاً نازفاً ومسحت جرحاً ثانياً بفؤادي يا ليت وارثتي الجميلة أدركت أن الذين عنتهم أجدادي عانقت فيها عندما ودعتها رجلاً يسمى "طارق بن زياد" img src="http://s.alriyadh.com/2014/05/09/img/547968273283.jpg" title=" شعر الشوق والحنين لأرض الحجاز في قصيدة "ابن معصوم المدني" "/ شعر الشوق والحنين لأرض الحجاز في قصيدة "ابن معصوم المدني" الشعر السعودي وحظي الشعر السعودي بنصيب وافر من شعر الحنين إلى المدن ومنازل الشباب، حيث لم يقف "محمد حسن فقي" في قصيدته "مكتي" وحيداً من بين شعراء عصره الذهبي، إذ قد جاء "حسين عرب" بقصيدته "ظبية الردف" و"حسن عبدالله القرشي" وهو يطرز أعذب النشيد في مدينة الطائف قائلاً: طب العليل وبهجة المصطاف ومنى الربيع ونزهة الوصاف إلى أن يأتي "علي الفيفي" ب"ربوع المصيف" يصف الجمال الطائفي، وهو يقول: هاجني الشوق يا ربوع المصيف للشفاء والهداء ووادي ثقيف وإلى أن يعود القرشي مداعباً أرض نجد التي قضى فيها جملة من صفاء العيش، حين الدراسة وطلب العلم، وهو يحن لتلك الأيام فيصف أرض نجد بما لم يصفها الأولون، وهو يقول: نفحات الصبا ومهد الخزامي نجد يا موطن الإباء سلاما قصر الحمراء شاهداً على حضارة الأندلس د.غازي القصيبي: سترت وجهي يا بغداد من خجلي وصحت قل يا فمي شعراً فلم يقل غير أنّ غازي القصيبي وبخطاب عروبي جاء مذكراً بما آلت إليه أوضاع بعض المدن العربية، لا سيما بغداد التي لطالما تغنى بها الشعراء وأسهب في وصفها البلغاء، إلاّ أن ظروف هذه المدينة الغارقة في الهم السياسي دعت القصيبي أن يبكي حضارتها وحاضرها بل وماضيها السعيد بقصيدته اليائية وهو يقول: سترت وجهي يا بغداد من خجلي وصحت قل يا فمي شعراً فلم يقل