ألمانيا اليوم هي المختبر الواعد للأفكار في أوروبا، وفي شطر من العالم. أفكار جديدة حول البيئة، وحول الاقتصاد والرفاه، وحول توليد الطاقة النووية، وحول الأحلاف. والأفكار تواكب ما تشهده برلين تمهيداً لعودة العاصمة اليها أو عودتها هي الى العاصمة: تجارب في المعمار وفي الرسم والنحت والكتابة، تعلن كلها الانتقال وتحتفل به في آن. لكن الموضوع الأكثر ضجيجاً هو... الجنسية. هنا قد ينفّذ الحزب الاشتراكي الديموقراطي وحكومة غيرهارد شرودر الجديدة ضربتهما الأولى، وهنا قد يحققان انتصارهما الأول. وفي مقابل الغموض الذي لا يزال يسم تناول المواضيع الأخرى، وفي مقابل كثرة التسويات بين أجنحة الحزب الاشتراكي، وبينه وبين حلفائه الخضر، فالوضوح هو ما يسم موضوع الجنسية، بحسب ما يعلنه اتفاق الحزبين المؤتلفين. وقانون الهجرة والجنسية الجديد قد لا يكون أهم من المسائل الأخرى المذكورة، لكنه بالقطع أكثر أساسية وقاعدية. فهو يتصل بتحديث المانيا، والمواضيع الأخرى تتصل بتحسين شروط التحديث وتوسيعه. الأول بأن تكون المانيا أوروبية ومتعددة ثقافياً واثنياً، والاخرى بأن تعمل في صورة أكفأ. الأول بالخلاص من ثقل الماضي على الحاضر، والأخرى بكيفيات التعامل مع الحاضر والمستقبل. ذاك ان المانيا تقليدياً بلد الشعب الفولك الالماني. وهذا المفهوم الذي صبغه النازيون بصبغة عرقية حادة، يعني اصلاً ان الانتساب يتم الى الأرومة، لا الى الاقامة مع ما يترتب عليها من عمل ودفع للضريبة وعيش بموجب القوانين. هكذا غدا في وسع مقيم في روسيا هاجر جده من المانيا ان يحافظ على جنسيته الالمانية، واستحال على تركي مقيم في المانيا، هاجر جده اليها، ان يحظى بجنسيتها. انه قانون متخلف وماضوي يُظهر تباين المانيا عن اوروبا التي ترفع تعددها الى مصاف الاقرار القانوني، بل هو قابل للتأويل العنصري على ما فعل النازيون. وحين حاولت المانيا الفيدرالية الغربية تذليله بعد الحرب فشلت لأن نشأة الكتلتين خلّفت ألماناً جدداً كثيرين في بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، وهؤلاء ينبغي ادامة صلتهم بالوطن الأم. الحجة هذه استند نصفها الى الحرية في مواجهة الأنظمة التوتاليتارية، واستند نصفها الآخر الى التقليد الرجعي اياه. ومع الزمن حاولت المانيا الفيدرالية ان تتلافى هذا القصور، فعوّضته بسلوك سخي مع المنفيين من بلدانهم، بيد ان هذا السخاء الذي لم يستطع اي بلد اوروبي منافستها عليه، ظل خارج سور الجنسية والمواطنية المحكم. القانون الجديد يفترض ان يؤدي في دفعته الأولى الى تجنيس حوالي 3 ملايين مقيم "أجنبي" من أصل 7 ملايين مهاجر مليونان وربع مليون تركي، 800 الف صربي، 620 الف ايطالي، 350 الف يوناني الخ...، محولاً تركيب البلد بكامله، ومؤشّراً الى الوزن الذي غدت تكتسبه مسائل الجنسية والبيئة والثقافة والاجتماع عموماً في طروحات اليسار الأوروبي واهتماماته. فهذه البيئة، لا بيئة المحافظين المتهرّئة، هي حيث تُمتَحن الأفكار الجديدة للمستقبل. السؤال هنا ومحاولة الجواب هنا. وهنا، هنا الوردة فارقص هنا.