Arlette Heyman - Doat. Les Re'gimes Politiques. الأنظمة السياسية. La De'Couverte, Paris. 1998. 124 pages. قد لا نغالي اذا قلنا ان تسمية أنظمة الحكم وتصنيفها هما جوهر الفكر السياسي منذ ان رأى هذا الفكر النور في القرن الخامس ق. م. ومع ان العادة درجت على اعتبار افلاطون اول من أرسى في كتابه "الجمهورية" أسس النظرية السياسية، الا ان أبا التاريخ، عنينا هيرودوتس، هو اول من وضع التصنيف الثلاثي المشهور للأنظمة السياسية من منظور عدد الذين يتولون دفة الحكم. فإن يكن من يحكم واحداً، فالنظام السياسي يسمى موناركياً. وان كان من يحكمون نخبة، فالنظام هو الاوليغاركية. اما اذا كان الشعب بجملته هو الحاكم، فتلك هي الديموقراطية. وأهمية نص هيرودوتس في الكتاب الذي اشتهر باسم "التواريخ" او "التحقيقات"، الذي وضعه في النصف الثاني من القرن الخامس ق.م، تكمن لا في اسبقيته الى التصنيف الثلاثي، بل اساساً في كونه نسب هذا التصنيف لا الى اليونان، بل الى الفرس. فقد روى في "التحقيق الثالث" تفاصيل مناقشة دارت في بلاط فارس في نحو العام 520 ق. م. فبعد موت الملك قمبيز، وعلى اثر ازاحة احد مغتصبي العرش، اجتمع اعيان المملكة وتباحثوا في خير انظمة الحكم التي تصلح لها. فتكلم احدهم ونقد الموناركية وحامى عن الحكومة الشعبية. وتصدى له ثانٍ، فانتقد حكم الفرد الموناركية وحكم العامة الديموقراطية معاً، وانتصر لحكم النخبة الاوليغاركية. ولكن الثالث، وهو داريوس، اكد على تفوق الموناركية، اذا اقترنت بالعدل، على كلا النظامين الآخرين. وليست وجهة نظر داريوس هي وحدها التي انتصرت، بل استطاع هو نفسه ان يجسدها في شخصه عندما تسنم، بحيلة من الحيل، سدة العرش. ومع ان الشكوك تحيط بالواقعية التاريخية للمناقشة، فان التصنيف الثلاثي كما اورده هيرودوتس غدا ثابتة من ثوابت النظرية السياسية اليونانية. وخلافاً لما هو متداول، فإن هذه النظرية انتصرت على الدوام، لا للديموقراطية، بل للموناركية، متابعة في ذلك التقليد الفارسي. بل ان افلاطون انبرى بهجاء مر للديموقراطية. فالديموقراطية، حسب تعبيره، هي حكومة الاخساء والاميين وطغيان الكم على الكيف. وذلك هو ايضاً موقف ارسطو الذي اعتبر الديموقراطية شكلاً من الاشكال الثلاثة الممكنة لانحراف الحكم. فأرسطو اخضع التصنيف الثلاثي لتفريع ثنائي، مميزاً الصالح من الفاسد من انظمة الحكم. فالحكومات هي على هذا الأساس ست، ثلاث منها صالحة هي الموناركية والارستقراطية والجمهورية، وثلاث منها فاسدة ولا تعدو ان تكون انحرافات للأولى. فالموناركية عندما تنحرف تغدو طغياناً او اوتوقراطية. والارستقراطية عندما تنحرف تغدو اوليغاركية. اما الديموقراطية فهي انحراف الجمهورية ومرادفة لطغيان الشعب الذي يستعيضها عن الحكم بالقوانين الثابتة بالحكم بالمراسيم المتقلبة تبعاً للأهواء والمصالح الآنية والانانية. هذا التصنيف الثلاثي المزدوج لأنظمة الحكم لم يطرأ عليه تعديل يذكر على امتداد حقبة العصور الوسطى الاسلامية والمسيحية على حد سواء. لا بقلم الفارابي كبير ممثلي الفكر السياسي في الاسلام، ولا بقلم توما الأوكويني كبير لاهوتيي المسيحية اللاتينية. وكان لا بد من انتظار الأزمنة الحديثة ليرى النور تصنيف جديد وجد مقدماته في كتابات مكيافيلي وهوبز ولوك قبل ان يدرك نضجه بقلم مونتسكيو، مؤلف "روح القوانين". ففي هذا الكتاب، الصادر عام 1748، يقترح مونتسكيو، بدون اي احالة الى ارسطو، تقسيماً ثلاثياً جديداً: الجمهورية، الموناركية، الاستبداد. فالحكومة الجمهورية هي تلك التي تعود فيها السيادة الى الشعب او الى جزء من الشعب. والحكومة الموناركية هي تلك التي يحكم فيها فرد واحد، ولكن بموجب قوانين مقررة وثابتة. اما عندما يحكم هذا الفرد الواحد بلا قوانين ولا ضوابط، وطبقاً لارادته وأهوائه، فذلك هو الاستبداد بعينه. وواضح للعيان ان هذا التقسيم لا يرهن طبيعة الحكم بعدد الحاكمين فقط، نظير ما كانت تفعل النظرية الافلاطونية - الارسطية، بل يضيف ايضاً معياراً جديداً هو بنية الحكم ونمط ممارسة السلطة. فالمونارك والمستبد يحكمان بمفردهما، ولكن الموناركية والاستبداد شكلان متمايزان تماماً من الحكم لأن من يحكم في الشكل الأول يحكم بموجب قوانين وضوابط، ومن يحكم في الشكل الثاني يحكم بلا قوانين ولا ضوابط. فمعيار مونتسكيو يعتمد المؤسسة، بالاضافة الى الرجال. وهذا تطور مهم على الطريق نحو تحديث النظرية السياسية. فبموجب التصور التقليدي كان العدل رهين ارادة الحاكم وشخصيته وخلقه. ولكن ابتداء من مونتسكيو باتت طريقة ممارسة لا تقل اهمية، من منظور العدل والظلم، عن شخصية من يمارسونها. وبهذا المعنى يمكن ان يعد مونتسكيو الأب الفعلي للديموقراطية الحديثة. فما دامت الفضيلة السياسية ترتهن بالمؤسسة اكثر منها بالرجال، فان الأهمية الأولى يجب ان تعطى لا لتربية الحكام كما في التصور التقليدي، بل لاصلاح بنية الحكم وضبط قواعده. ومن هنا اقترح مونتسكيو مبدأه العظيم في ضرورة الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ضماناً لمنع الاستبداد. والحال ان هذا الحد للسلطة بالسلطة يكاد يختصر كل جوهر الديموقراطية، علماً بأن ايثار مونتسكيو الشخصي كان يذهب الى النظام الملكي المعتدل والمقيد بالقوانين وبالتمثيل الارستقراطي والشعبي معاً على الطريقة الانكليزية. وبعد قرن بالضبط من مونتسكيو ارسى ماركس الأسس لعلم اجتماع انظمة الحكم. فالعلاقات الاقتصادية والمصالح الطبقية هي التي تتحكم ببنية أنظمة الحكم، وهذا في اطار التشكيلة التاريخية التي تتعين بدورها بعلاقات الانتاج ومستوى تطور القوى المنتجة. وباستثناء مرحلة ما قبل التاريخ التي شهدت تطور المشاعر القروية، فقد ميز ماركس بين انظمة كبرى ثلاثة: الاقطاعية والرأسمالية والاشتراكية، وذلك بالتناظر مع تطور ثلاث قوى انتاجية كبرى: الفلاحين والبورجوازيين والعمال. والى هذا التصنيف الثلاثي اضاف في بعض كتاباته نمطاً رابعاً هو نمط الانتاج الآسيوية الذي يناظره، كنظام للحكم، الاستبداد الشرقي. وفي الوقت الذي توقّع فيه ماركس نهاية السياسة مع قيام المجتمع اللاطبقي، فقد قاده تحليله الطبقي على مستوى البنية التحتية للأنظمة السياسية الى ازدراء شكلية الديموقراطية الحديثة بوصفها واجهة وقناعاً لهيمنة الطبقة الرأسمالية على السلطة. والحال ان هذا الازدارء للديموقراطية البورجوازية، مقروناً بالوعد بالخلاص في فردوس المجتمع اللاطبقي، هو ما فتح الطريق امام ظهور نظام سياسي جديد في روسيا اللينينية - الستالينية، هو النظام الشمولي او التوتاليتاري. وأول من نحت التعبير هو الزعيم الفاشي الايطالي موسوليني في خطاب له عام 1925 عارضاً فيه الديموقراطية الليبرالية بفكرة "الدولة الكلية" التي صارت شعاراً للحركة الفاشية: "كل شيء في الدولة، لا شيء ضد الدولة، لا شيء خارج الدولة". وقد امسكت حنة آرنت بالمفهوم لتطبقه، في كتابها "اسس التوتاليتارية" الصادر عام 1951، على النظامين النازي والستاليني معاً، مميزة بين الطغيان والاستبداد بشكليهما التقليدي وبين التوتاليتارية التي تقوم على اساس ايديولوجي شمولي وجذري يطيح بكل المقولات السياسية والاخلاقية المتوارثة، ويبرر الارهاب الاستئصالي الهادف الى ابادة عرق او طبقة بكاملهما. وعلى خطى حنة ارنت حدد كارل فريديش، بالمشاركة مع زبغنيو بريجنسكي، ست سمات للنظام التوتاليتاري: 1 - ايديولوجيا رسمي للدولة، 2- حزب اوحد لتأطير الجماهير، 3- رقابة بوليسية، 4 ارهاب المجتمع، 5- احتكار وسائل الاعلام والاتصال، 6- السيطرة الممركزة على الاقتصاد. ولئن يكن الطغيان الايديولوجي هو موضع اجماع كل من تصدى لدراسة الظاهرة التوتاليتارية في القرن العشرين، فان السمة الثانية المتعلقة بطغيان الحزب الواحد كانت بالمقابل موضع جدل. فالتوتاليتارية الستالينية مورست بكل تأكيد بوساطة الحزب الاوحد، ولكن ضده ايضاً. فستالين قد مارس ديكتاتوريته على الحزب البلشفي نفسه. وارهاب السنوات الثلاثينيات قد طال اعضاء الحزب وقىاداته. وطبقاً لما ذكره خروتشيف في تقريره السري امام المؤتمر العشرين، فان 70 في المئة من اعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي المنتخبين عام 1934 قد تمت تصفيتهم اعداماً. ولا شك ان الحزب الشيوعي مثّل على الدوام تنظيماً موازياً، ولكن نادراً ما كانت له الهيمنة الفعلية على جهاز الدولة. وبدلاً من ان تعود اليه الرقابة كما تفترض وظيفته الايديولوجية المعلنة، فقد كان يخضع هو نفسه، ومعه جملة المجتمع، لرقابة الشرطة السياسية. وقد ميز علم الاجتماع السياسي المعاصر على كل حال بين الظاهرة التوتاليتارية والظاهرة الديكتاتورية. فكثرة من الانظمة السياسية في العالم تبقى، حتى بعد سقوط توتاليتاريات المعسكر الشيوعي، قابلة للتوصيف بأنها ديكتاتورية. والديكتاتورية هي غير التوتاليتارية وذلك من حيث انها لا تصادر سوى الحرية وتترك هامشاً ما من الاستقلال الذاتي للمجتمع المدني. وهذا معناه انه اذا كان الجلادون في الديكتاتورية كما في التوتاليتارية يتشابهون، فان نمط حياة الضحايا يختلف اختلافاً كبيراً. فالنظام التوتاليتاري يفرض الزامات وإكراهات، بينما يكتفي النظام الديكتاتوري بفرض نواهٍ. والتوتاليتارية تفرض الرأي الواجب الالتزام به، بينما تكتفي الديكتاتورية بأن تنهى عن اعتناق بعض الآراء. وعليه من الممكن في ظل النظام الثاني الاحتماء بالصمت، ولكن الصمت غير مقبول في النظام الأول. فاستسلام المواطنين في الديكتاتورية يمكن ان يبقى جزئياً، ولكنه في التوتاليتارية شامل. وهذا لا يعني ان الديكتاتورية لا تقترب احياناً من التوتاليتارية الى حد الغاء كل فاصل بينهما. فكثرة من ديكتاتوريات العالم الثالث "الثورية" قد حاولت تقليد توتاليتاريات المعسكر السوفياتي واستنساخها. ولكن هبوب رياح الديموقراطية على العالم في نهاية القرن هذه اجبرها، في ما خلا حالات "مستعصية"، على التراجع وعلى التنكر بدورها خلف واجهة الديموقراطية. وهي بكل تأكيد واجهة كاذبة، ولكن الاحتماء خلفها يبقى على كل حال اقل شراً من الاحتماء خلف واجهة التوتاليتارية.