Maurice Barbier. Le Mal Politique. الشر السياسي. Harmattan, Paris. 1997. 180 Pages. عرفت المجتمعات البشرية أشكالاً متنوعة من السلطة عبر التاريخ، بدءاً بالاستبداد المطلق وانتهاء بالحكم الديموقراطي. ولكن السلطة السياسية، أي الدولة بتعبير آخر، ما تبدت قط وكأنها ظاهرة طبيعية ومقبولة من تلقاء نفسها. بل كانت على الدوام بحاجة الى التبرير أو الى اثبات المشروعية. وقد سلك الفكر السياسي في تبرير الدولة ثلاثة سبل. ففي طور أول نوه الفكر السياسي، وعلى الأخص بلسان افلاطون وأرسطو، بأن الانسان حيوان اجتماعي، اذ هو لا يستطيع ان يعيش وينمو ويتكاثر الا في المجتمع. والحال ان المجتمع لا تقوم له قائمة من دون سلطة تضمن له وحدته وبقاءه. وعليه فالسلطة السياسية تبررها الطبيعة الاجتماعية للانسان ومن ثم فإن أساسها، بمعنى من المعاني، طبيعي. وفي طور ثانٍ، وفي عالم العصر الوسيط الذي هيمن عليه التصور الديني، نسب الفكر اللاهوتي الى السلطة أساساً الهياً. فالسلطان هو ظل الله على الأرض، ومشروعية السلطة تقع خارج الانسان وفوقه. وحتى اذا كان مرد السلطة الى الطبيعة الاجتماعية للانسان، كما يقول المأثور اليوناني، فإن الله هو الذي خلق الانسان اجتماعياً بطبيعته. فالله اذن هو في أصل السلطة، كما في أصل المجتمع والطبيعة معاً. ومع بدايات الحداثة في القرن السادس عشر عزا الفكر السياسي والفلسفي الجديد الى السلطة أساساً بشرياً خالصاً. فالسلطة السياسية أو الدولة تقوم على أساس عقد اجتماعي، أي على تفاهم وقبول ارادي من قبل المجتمع الذي يفرز من داخله سلطة كيما تتولى سياسته. فلا دولة اذن الا بقدر ما تريدها المشيئة المشتركة للناس الذين تحولوا على هذا النحو الى مواطنين بإرادتهم، لا بقضاء الهي ولا بحتمية طبيعية أو اجتماعية. ونظرية العقد، اذ جعلت للسلطة السياسية أساساً انسانياً، فقد أباحتها للنقد. وبالفعل، ولأول مرة في تاريخ الفكر السياسي والفلسفي، غدت الدولة قابلة للنقد في مبدئها بالذات. فمن قبل ما كان النقد يطول - هذا وان قيض له ان يعلن عن نفسه - الا الأشكال الاستبدادية والظالمة واللامشروعة من الحكم. ولكن ابتداء من القرن السادس عشر طفقت بعض تيارات الفكر تشكك في مشروعية الدولة نفسها وفي ضرورتها. وقد بلغ هذا التشكيك ذروته في القرن التاسع عشر مع تطور المذاهب الفردية الليبيرالية من جهة اولى، والمذاهب الجماعية الفوضوية والشيوعية من جهة ثانية. فالفكر الليبيرالي جعل همّه الأول الحد من سلطة الدولة باعتبار ان هذه السلطة شراً لا بد منه. وقد كان مكيافيلي 1469 - 1527 أول من صاغ نظرية السياسة بوصفها شراً. فالسلطان لا يصل الى السلطة ولا يحافظ عليها الا اذا كان على استعداد لأن يقترف شراً. والقسوة والحيلة وحتى الجريمة ضرورية لحكم البشر. وذلك أيضاً كان مذهب هوبز 1588 - 1679 الذي رأى في السلطة شراً أصغر لدرء شر أكبر. فمن دون سلطة يفترس الناس بعضهم بعضاً، وقد تفنى الانسانية نفسها في حرب الجميع ضد الجميع. وتلافياً لمثل هذه الحرب فلا بد ان يتخلى البشر عن حقوقهم وسلطاتهم الى سلطة أعلى منهم هي بالضرورة مطلقة. فلولا شر البشر لما كانت بهم حاجة الى شر الدولة. لكن اطلاق سلطة الدولة الا يهدد بتحويل الشر السياسي من شر اصغر الى شر أكبر؟ هذا السؤال هو الذي عنيت بالاجابة عنه المدرسة الليبيرالية التي رأت النور مع جون لوك 1632 - 1704. فابتداء من القرن السابع عشر غدا نقد السلطة السياسية هو الموضوع الأول للفكر السياسي فالدولة هي بالفعل، وكما وصفها هوبز، "تنين". ولكن هذا التنين لا شأن له سوى ان يبتلع المجتمع المدني فيما اذا أطلق له العنان. ومن هنا فإن المهمة الأولى هي الحد من سلطة هذا التنين عن طريق الفصل ما بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. فسن القوانين وتنفيذها لا ينبغي ان يكونا في يد واحدة والا تحولت الى قبضة حديدة مستبدة. وفي اثر لوك سيتابع مونتسكيو 1689 - 1755 التأكيد على ضرورة فصل السلطات. فمن طبيعة السلطة ان تطلب المزيد من السلطة، وان تنزع - فيما إذا لم تقيد - الى اساءة استعمال السلطة. ولهذا ينبغي حد السلطة بالسلطة. واذ يميز مونتسكيو بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، فإنه يلاحظ ان السلطات المنفصلة قمينة بأن "توقف" واحدتها الأخرى على حد تعبيره، ومن ثم ان تتوازن وتلتزم بالاعتدال، وهذا على العكس من الحكومة الاستبدادية التي لا مناص من ان تجنح الى التطرف والطغيان ما دامت تجمع بين السلطات كافة ولا تقيد نفسها حتى بالقانون لأن القانون نفسه خاضع لارادتها. ولئن توقف الفكر الليبيرالي عند فكرة الحد من سلطة الدولة والاكتفاء بضبطها وتقييدها، فإن الفكر الاشتراكي والفوضوي للقرن التاسع عشر تطرف الى حد المطالبة بإلغائها. فالشر السياسي، عدا انه شر، فهو شر فائض عن الحاجة. ولئن لم يتنكر سان سيمون 1760 - 1825، الأب المؤسس للايديولوجيا الاشتراكية، لمبدأ ضرورة الدولة، فقد رأى ان الأساس الذي ينبغي ان تقوم عليه هذه الدولة ليس السياسة ولا السلطة، بل العلم والصناعة والانتاج. فالدولة، بعشرات الآلاف من موظفيها، عالة على المجتمع. والسلطة ينبغي ان تعود الى المنتجين، وخصوصاً الصناعيين، لا الى البيروقراطيين. وهدف الدولة لا ينبغي ان يكون الحكم، بل تنظيم الانتاج. فالدولة السياسية معادية للحرية. ومن ثم ينبغي ان تزول لتحل محلها دولة المنتجين، أي الصناعيين والعلماء والفنانين. فعلى هذا النحو وحده يمكن الغاء علاقات القوة من المجتمع، والاستغناء عن أدوات العنف المتمثلة بالجيش والشرطة، والاستعاضة عن دولة السياسة بدولة العلم التي من شأنها وحدها ان تضمن الحرية للأفراد والسلم للأمم. هذه النظرة السلبية الى السياسة ستتجذر لدى ماركس 1818 - 1883 الى حد رفض مبدأ الدولة بالذات. فمنذ "كتابات الشباب" تركز النقد النظري لماركس على الدولة والسياسة وعلى المطالبة، "الفلسفية" بالغائهما. وفي طور لاحق، أكثر انصافاً بالطابع العلمي والعملي، تبنى ماركس اشكالية جديدة تقوم على فكرة استيلاء البروليتاريا على السلطة لتلغي الطبقات والصراع الطبقي، وبالتالي الحاجة الى الدولة نفسها. فأصل الدولة يكمن في التقسيم الاجتماعي للعمل، وبالتالي في انقسام المجتمع الى طبقات متناحرة. والدولة هي على الدوام دولة الطبقة السائدة اقتصادياً. والثورة البروليتارية، التي ستلغي تقسيم العمل، ستلغي المؤسسة السياسية بالذات. فالشيوعية لن تقيم فقط مجتمعاً بلا طبقات، بل ستكون أيضاً بمثابة اعلان عن نهاية السياسة. فالمجتمع الشيوعي هو ذاك الذي ستحل فيه "ادارة الأشياء على حكم البشر". وعلى حد تعبير انغلز 1820 - 1895، رفيق ماركس وظله معاً، فإن "مآل الدولة سيكون الى متحف التاريخ". ولكن مفارقة التاريخ شاءت ان تكون الدولة الواعدة بإلغاء الدولة هي أعتى شكل من أشكال الدولة عرفه التاريخ. فوعد اللادولة الشيوعية تمخض عن دولة شمولية توتاليتارية تبدو باهتة بالمقارنة معها حتى صورة هوبز عن "التنين". ولقد أمكن لمحللي تجربة الدولة السوفياتية ان يتحدثوا عن تضخم من طبيعة سرطانية. وقد كان نقد هذه التجربة وراء تجدد الحيوية في الفكر الليبيرالي في القرن العشرين. فالليبيرالية اليوم، أو النيوليبيرالية بتعبير أوفى، هي بالتعريف فكر ناقد للدولة. وعلى حين ان النقد الاشتراكي أو الفوضوي للدولة قد طويت صفحته أو كادت، فإن النقد الليبيرالي المعاصر يدلل على فاعلية غير مسبوق اليها، ولا سيما في الولاياتالمتحدة الأميركية. والواقع ان نقد الدولة تقليد عريق لدى المفكرين الأميركيين. فمنذ مطلع القرن التاسع عشر كان توماس جفرسون 1743 - 1826، الذي صار الرئيس الثالث للولايات المتحدة، قد أعلن ان "خير حكومة هي تلك التي تحكم أقل". ومن بعده أكد الفيلسوف رالف والدو إمرسون 1803 - 1882 انه "كلما تدخلت الدولة أقل سارت الأمور أحسن". بل ان تلميز إمرسون، هنري ديفيد تورو 1817 - 1862 مضى بالاشكالية الى أقصى مداها، مؤكداً ان "خير حكومة هي تلك التي لا تحكم". وبدوره لم يتردد منظر الحرية الأميركي البرت جاي نوك في ان يعلن، كما يقول عنوان كتاب شهير له صادر عام 1928: "الدولة عدوتنا". وأبرز ممثلين اليوم للفكر الأميركي الناقد للدولة الاقتصاديان جيمس بوكانا وفريدريك هايك الحائزان كلاهما على جائزة نوبل للاقتصاد. فالأول يرفع شعار "دولة الحد الأدنى"، والثاني يرى ان "جذر الشر" يكمن في الدولة، ولو كانت هي دولة الديموقراطية. وفي نظره ان الديموقراطية نفسها لا تعدو ان تكون قيمة سالبة: فهي مجرد قاعدة اجرائىة لاتقاء شر الاستبداد، وأية محاولة لاعطائها مضموناً ايجابياً تتأدى لا محالة الى تدميرها. وعليه فإن الدولة الديموقراطية هي محض دولة سالبة، ولا دور لها غير ان تمنع أية جماعة خاصة من أصحاب المصالح الاقتصادية أو الأهواء السياسية من ان تؤسس نفسها في دولة. ولئن يكن فريدريك هايك رفع شعار تقليص القطاع العام والغاء احتكار الدولة للخدمات العامة: كالتعليم والمواصلات والاتصالات والبريد والاعلام السمعي - البصري، فإن ديفيد فريدمان، ابن الاقتصادي الأميركي ملتون فريدمان الحائز على جائزة نوبل، يذهب الى أبعد من ذلك بكثير، داعياً الى "مجتمع بلا دولة"، والى الغاء الوظائف الأساسية للدولة: الشرطة والقضاء وحتى الدفاع الوطني واصدار العملة. فكل ذلك يجب ان يعود الى القطاع الخاص وان يخضع لمبدأ اقتصاد السوق. اذن في الولاياتالمتحدة الأميركية، التي تتمتع بنظام سياسي هو الأقل تدخلية في نوعه بين سائر الأنظمة السياسية للعالم الحديث، يتلبس التنظير حول "الشر السياسي" شكله الأكثر تطرفاً. وهذه المفارقة قابلة للمفهوم على ضوء التجربة التاريخية الأميركية: ففي الولاياتالمتحدة كان الممجتمع سابقاً في الوجود على الدولة، وهو الذي لا يزال الى اليوم ممسكاً بزمام المبادرة، لا الدولة.