لم يطلق المجلس الأعلى للثقافة بمصر اسم الأخطل الصغير بشارة عبدالله الخوري عبثاً على صالون الأربعاء الخاص بأحد الأشهر القليلة الماضية. فالواقع أنه كانت هناك أسباب موجبة كثيرة منها تلك الصلة الخاصة والعميقة التي ربطت بين الشاعر ومصر، وبخاصة بينه وبين أمير الشعراء أحمد شوقي، فمنذ تعرف الأخطل إلى شوقي في بيت رئيس الجمهورية اللبنانية شارل دباس في مدينة عاليه في بداية العشرينيات من القرن الماضي، قامت بين الشاعرين صداقة متينة. كان شارل دباس يقيم مأدبة غداء لتكريم شوقي دعا إليها نخبة من أدباء لبنان وشعرائه كان منهم الأخطل الصغير، الشاعر الشاب نسبياً يومئذ. تأخر شوقي في الحضور فقلقت عليه الخواطر. وعندما حضر متأخراً بدا عليه العياء. كان وجهه أصفر، وقد نجا بأعجوبة من اصطدام كاد يودي بحياته. طلب رئيس الجمهورية على عجل طبيباً لإسعافه وعندما تحسنت حاله ونظر إلى المتحلقين حوله، رأى بينهم الأخطل الصغير، فقال له: «كنت حَ سترثيني يا بشارة».. روى الأخطل الصغير بشارة عبدالله الخوري هذه الحادثة نثراً كما رواها شعراً. ففي حديث صحفي له (مجلة الحوادث اللبنانية 10 حزيران يونية 1966) تحدث عن هذه الصداقة مع أمير الشعراء، فقال: «لقد طالت صداقتنا إلا ان توفي فرثيته بحرقة لأني أحببته كثيراً». وقد كان الأخطل يلازم شوقي عندما يأتي للاصطياف في لبنان، ملازمة المريد لشيخه، أو الطالب لمعلمه لأنه كان يعرف جيداً منزلة أمير الشعر ومقامه في دولته. وقد أشار الأخطل إلى هذه الحادثة في رثائه لشوقي، فقال في خاتمة قصيدته مذكراً إياه بها: شوقي أتذكر إذ «عاليه» موعدنا نمنا وما نام دهر عن مقادره وأنت تحت يد الآسي ورأفته وبين كل ضعيف القلب خائره ولابتسامتك الصفراء رجفتها كالنجم خلف رقيق من ستائره ونحن حولك عكاف على صنم في الجاهلية ماضي البطش قاهره؟ سألتنيه رثاء، خذه من كبدي لا يؤخذ الشيء إلا من مصادره! وفي أبيات هذه القصيدة نلمس حرارة الود الذي قام بين الشاعرين، ومكانة شوقي الرفيعة في قلب الأخطل: قال الملائك: من هذا؟ فقيل لهم: هذا هوى الشرق هذا ضوء ناظره هذا الذي نظم الأرواح فانتظمت عقداً من الحب سلك من خواطره هذا الذي رفع الاهرام من أدب وكان في تاجها أغلى جواهره هذا الذي لمس الآلام فابتسمت جراحها ثم ذابت في محاجره كم في ثغور العذارى من بوارقه وفي جفون اليتامى من مواطره ومن أطراف ما ذكره الأخطل في حواره الصحفي هذا قوله: «لقد ألمت بي حمى مفاجئة يوم تأبينه، ولم أكن قد اكملت القصيدة. ومنعني الأطباء من مغادرة الفراش. وجاءني كبار ابناء الجالية اللبنانية في القاهرة يصرون على أن اذهب إلى قاعة الاوبرا حيث أقيم مهرجان التأبين، مهما كلف الأمر.. قالوا لي: «هلّق في لبنان! بتموت موت إنما لازم تحضر وتلقي قصيدتك».. واخرجوني من السرير والحمى تنهشني. ولو تأخرت عشر دقائق لفاتني القاء القصيدة وقد ألقيتها والحمى الشديدة لا تفارقني. ولأول مرة في تاريخ المآتم، أخذ النماس يصفقون، وأجبروني على إعادة عشرة أبيات من القصيدة». وبصرف النظر عما إذا كانت الحمى التي وقع الأخطل الصغير أسيراً لها هي نتيجة عارض صحي طارئ، أم نتيجة رعب وتهيب من المناسبة، فإن هذه القصيدة الخالدة ليست كل الرصيد الذي لمصر في ديوان الأخطل. فالواقع ان لمصر حصة وافرة في هذا الديوان سنشير إلى بعضها فيما يلي: فعندما توفي الزعيم المصري الكبير سعد زغلول باشا رثاه الأخطل بقصيدة يقول في مطلعها: قالوا دهت مصر دهياء فقلتُ لهم هل غيض النيل أم هل زلزل الهرم قالوا اشد وادهى، قلت: ويحكم اذن لقد مات سعد وانطوى العلم ورثى الأخطل شاعر النيل حافظ ابراهيم بقصيدة منها: شاعر النيل خذ بناصية النجم وداعب جبينه البراقا ما نسينا لك القصائد حمرا قطع الشرق دونها الاطواقا فغسلت الجراح بالسلسل العذب وصيرت كل خلف وفاقا ودوى صوتك النذير بمصرٍ فإذا الشرق عنده يتلاقى ويخاطب مصر في قصيدة أخرى: يا مصر ما نظم الجهاد قصيدة الا استهل بذكرك الفوّاح أو سال جرح من جبين مجاهد الا عصبت جراحه بجراح.. وله قصيدة أخرى فيها: مرحباً مصر مرحباً كل أهل لك أهلُ وكل صدر محلُّ ليس تألو الرياض ان توقظ الزهر وان تجمع الشذا ليس تألو لتريق الدريج سكبا وتهتانا على وجه مصر حين يطل! على أن رصيداً كبيراً للأخطل في مصر سجله الأخطل من خلال علاقته بالمطرب محمد عبدالوهاب. غنى عبدالوهاب من نظم الأخطل عدة أغاني ناجحة كان منها قصيدة كتب الأخطل نصفها بالفصحى ونصفها الآخر باللهجة المصرية وهي أغنية «يا ورد مين يشتريك»: يا ورد مين يشتريك وللحبيب يهديك يهدي إليه الأمل والهوى والقبل ابيض غار النهار منه خجول محتار باسه الندى ف خده غارت عليه الاغصان راح للنسيم واشتكى جرّح خدوده وبكى.. ولأن بعض أبياتها بالفصحى، فقد كانت غريبة في بابها ولم يتكرر هذا الأسلوب في أية اغنية أخرى. وغنى عبدالوهاب للأخطل قصائد جميلة أخرى منها: الصبا والجمال ملك يديك اي تاج أعز من تاجيك نصب العرش حسنه فسألنا من تراها له، فدلّ عليك فاسكبي روحك الحنون عليه كانسكاب السماء في عينيك ومنها «الهوى والشباب»: الهوى والشباب والأمل المنشود توحي فتبعث الشعر حيا والهوى والشباب والأمل المنشود ضاعت جميعها من يديا أيها الخافق المعذب يا قلبي نزحت الدموع من مقلتيا أأنا العاشق الوحيد لتلقى تبعات الهوى على كتفيا.. ولا ننسى «جفنه علّم الغزل»، وقصيدة أخرى كتبها الأخطل لعبدالوهاب لكي يغنيها يوم تتويج الملك فاروق ولكنها لم ترَ النور لأنها تتضمن صفات لفاروق لا تعطى عادة لغير الأنبياء.. وهذه الأغنية ما تزال في محفوظات الاذاعة المصرية إلى اليوم. وقد سئل محمد عبدالوهاب مرة في حديث صحفي لبناني: من هم الشعراء الذين لحنت لهم دون عناء؟ قال: شوقي. فسألوه ثم من؟ قال: نزار قباني. وظل عبدالوهاب يكرر اسماء ولم يأتِ على ذكر الأخطل الصغير. وحين سئل عن هذا أجاب: لقد سألتموني عن الشعراء الذين ألحن لهم. أما الأخطل الصغير فقد كان شعره يأتيني ملحناً! تلك صفحة خالدة في كتاب الشعر والغناء، وفي كتاب المودة والصداقة بين الشعراء والفنانين، وفي كتاب العروبة!