بعد آخر لقاء عقدته الوزيرة مادلين أولبرايت آواخر عام 1997 مع نتانياهو وعرفات، كل على انفراد، قالت "ان سنة 1997 كانت سيئة لعملية السلام"، ولم تقدم أي مقترحات عملية لانقاذها من حالتها السيئة، ومنعها من ان تسوء أكثر في عام 1998. وتعمدت القفز عن تحديد الأسباب والمسؤوليات عن هذه النتيجة. واكتفت باحالة الرجلين على الرئيس كلينتون، وقررت ارسال دنيس روس الى المنطقة للقائهما تحضيراً لاجتماعهما مع الرئيس. فهل انضجت أولبرايت طبخة الاتفاق الجديد وامتنعت عن الاعلان عنها من أوروبا، تمهيداً لاعلان الرئيس كلينتون عنها من البيت الأبيض، كما يعتقد البعض؟ حتى لا يتبدد هذا الانجاز ويحافظ على نكهته الأميركية الخالصة. ام انها تحاشت الاعلان عن فشلها المدوي، وأرادت استخدام ثقل ورقة الرئيس لتدارك فشلها والتستير عليه؟ وهل سينجح الرئيس حيث اخفقت وزيرة خارجيته؟ اعتقد بأن مصلحة صنع السلام في المنطقة، وتحضير الأوضاع الفلسطينية والعربية لمواجهة التطورات الكبيرة التي يحملها العام الجديد، تفرض عدم احلال الرغبات الذاتية مكان الوقائع العنيدة، وعدم دفن الرؤوس في الرمال وتركها للأقدار لتفعل ما تريد. فلا حاجة لعبقرية خارقة حتى يتم اكتشاف فشل الادارة الأميركية في عهد أولبرايت في ارغام نتانياهو على احترام الاتفاقات التي وقعها مع الفلسطينيين، وفي القيام بواجب الرعاية المطلوبة لعملية السلام ككل. ولا تستطيع السيدة الوزيرة ومساعدوها ان يسجلوا لأنفسهم أي انجاز ملموس في مجال صنع السلام بين العرب والاسرائيليين وصنع الاستقرار في الشرق الأوسط طوال عام 1997. ولا تستطيع أولبرايت التنصل من مسؤوليتها عن تدهور حال عملية السلام على المسار الفلسطيني - الاسرائيلي1997. فاتفاق الخليل وملحقاته، "الانجاز اليتيم" الذي تم التوصل اليه أواخر فترة سلفها وارن كريستوفر، تحول في عهدها من انجاز يسجل للادارة الأميركية الى اخفاق مدو، وأصبح شاهداً حياً على هذا الاخفاق، ومس دورها على صعيد نزاهة رعايتها لعملية السلام. والمعلومات المتوافرة تؤكد بأن الوزيرة أولبرايت أخفقت في اقناع نتانياهو بالتزام تنفيذ ما وقع عليه، ولم تستطع انتزاع تواريخ ومساحات الانسحاب من أراضي الضفة الغربية حسب نصوص اتفاق الخليل. واضطرت، لاعتبارات تتعلق بطبيعة علاقة الولاياتالمتحدة باسرائيل وأخرى أميركية داخلية، قبول الاعذار والمبررات التي طرحها. ومنحته المهلة الزمنية التي طلبها. ويسجل لنتانياهو أنه تمكن من افراغ جولة أولبرايت اليتيمة للمنطقة وكل لقاءاتها اللاحقة من كل مضمون. ثم نجح في اسقاط أول مبادرة تبنتها الوزيرة أولبرايت شخصياً التي قالت فيها Time Out للاستيطان، فقد ظنت لفترة بأنها انتزعته من زعيم ليكود، لكنه تحداها وواصل الاستيطان وكثف العمل فيه ومضى قدماً في خرق الاتفاقات. وعلى رغم ان الأيام اثبتت انها كانت واهمة الا انها قبلت بالهزيمة وحاولت التستير عليها، وجارته في مواقفه، ورضيت لنفسها بالغرق في متاهات الوضع الاسرائيلي الداخلي، ودخلت سراديب متطلبات أمن اسرائيل، ولم يتوانَ نتانياهو عن تقديم وعود جديدة، والتزم التجاوب مع الرغبات الأميركية، بعد تجاوز قطوع التصويت على ميزانية الدولة للعام الجديد. ولم يتردد في تأكيد حاجته لفترة زمنية لا تقل عن 4 - 5 شهور، يختبر فيها الجانب الفلسطيني قبل تنفيذ الانسحاب الموعود، وشدد على ضرورة الذهاب فوراً الى مفاوضات الحل النهائي. ويستطيع كل من تابع مناقشات الكنيست الاسرائيلي للميزانية، ومناقشات الحكومة لمساحة الانسحاب، الاستنتاج بأن وعود نتانياهو تضليلية وخادعة. فالموازنة زادت حجم المخصصات للاستيطان وتوابعه وملحقاته. اما الجولات الاستعراضية المتعددة التي قام بها أعضاء حكومة ليكود في الضفة الغربية لقراءة الخرائط على الأرض فكان هدفها التستير على كذبته الكبيرة ضمن كذباته الكثيرة، والامعان في تضليل الأميركان والأوروبيين وخداع كل الحريصين على صنع الاستقرار في الشرق الأوسط. فنتانياهو وأركان حكومته ناقشوا بعضهم بعضاً، في اجتماعات طويلة ومتكررة عقدوها في مقر رئاسة الوزراء، حول مساحة الأراضي التي سيتم ابقاؤها تحت السيادة الاسرائيلية، وتلك التي سيبقونها تحت سيطرتهم الأمنية الكاملة، والتي سينقلون ادارتها فقط الى الفلسطينيين. وبحثوا ميدانياً في سبل ضمان أمن المستوطنات، وتوسيع بعضها وزيادة عددها، وربطها بعضها ببعض وشق مزيد من الطرق الاستراتيجية. ولم يكلفوا انفسهم عناء بحث الأمر مع الشريك الفلسطيني، ولم يعيروا مصالحه وأمنه أي أعتبار، ولم ينطلقوا في جولاتهم ومناقشاتهم من الاتفاقات التي وقعوها معه. فالموضوع المطروح في ذهن نتانياهو ووزرائه هو ضم اراضٍ جديدة لاسرائيل، وضمان الأمن القومي الاسرائيلي الشامل على الجبهة الشرقية، وترتيب الوضع على الحدود مع الأردن وليس أمن حدود دولة اسرائيل مع السلطة الفلسطينية، ولا نقل أراضٍ لسيادتها. صحيح ان الادارة الأميركية اضطرت في مرحلة من مراحل المفاوضات الى توجيه بعض الانتقادات لسياسة نتانياهو بعدما تبين لها ان استمرار سياسته الراهنة يهدد منظومة العلاقة التي بنتها في المنطقة بعد حرب الخليج، الا ان خطأ فادحاً يمكن ان ترتكبه السلطة الفلسطينية ان بنت على هذا النقد واعتقدت ان اللقاء المرتقب مع الرئيس كلينتون وما قام به دنيس روس تحضيراً له، سيحدث انطلاقة جديدة في عملية السلام. فوعود نتانياهو للوزيرة أولبرايت ليست جديدة، ولقاؤه مع الرئيس كلينتون ليس اللقاء الأول ولن يكون الأخير. وتجربة عام كامل من عهد كلينتون - أولبرايت بينت ان السياسة الخارجية الأميركية ليست معادية لسياسة ليكود بل كانت في مفاهيمها السياسية قريبة منها، وبخاصة حول كيفية التعامل مع الفلسطينيين. وكل ما تسعى اليه هو ان تتفهم حكومة نتانياهو خططها الاستراتيجية في المنطقة بالقدر الذي تبدي هي تفهمها لسياستها. ولم تتوقف الادارة الأميركية طويلاً أمام عامل الزمن، وسايرت نتانياهو وأعطته كامل وقته ولم تراعٍ التوقيتات الواردة في الاتفاقات، ولم تنتبه للوقت حسب ساعة الفلسطينيين. والمهلة الزمنية التي منحتها أولبرايت له استغلت جيداً في تقوية مواقع القوى الأكثر تشدداً في المجتمع الاسرائيلي اذ استجاب نتانياهو لمطالبها بدعم الاستيطان وخصص له مبالغ كبيرة. ومكنته من لملمة أوضاع حكومته وحول نقاش قضايا الائتلاف الحكومي وصراعاته المتنوعة الى نقاش مع اليسار الصهيوني وحزب العمل حول مساحة اعادة الانتشار وحول متطلبات أمن اسرائيل وهو النقاش الذي يسهل فيه اتهام اليسار بالمواقف التفريطية ليظهر اليمين حرصاً أكبر على الأرض وعلى أمن اسرائيل. ولا حاجة الى عبقرية خارقة حتى يتم التنبؤ بما سيطرحه نتانياهو على الرئيس كلينتون، والتعرف على الرد الذي سيتلقاه. فهو ذاهب للقاء وتفكيره منصب حول كسب مزيد من الوقت وتأجيل دفع الاستحقاقات المطلوبة أطول فترة زمنية ممكنة. وقد يحمل معه اقتراحاً بانسحاب القوات الاسرائيلية من مساحة تتكون من رقمين حسب الطلب الأميركي، تراوح بين 10.5 و15 في المئة فقط من مجموع الأراضي المفترض الانسحاب منها والبالغة 66 في المئة حسب التقديرات الفلسطينية المستخلصة من الاتفاقات. ولن يتنازل نتانياهو عن فترة الاختبار التي تحدث عنها مع الوزيرة أولبرايت 4 - 5 شهور، مراهناً على وقوع تطورات خلال هذه الفترة عند الفلسطينيين تمكنه التهرب من تنفيذ وعوده الجديدة التي سيقدمها للرئيس كلينتون، وتعطيه بالحد الأدنى الحق في طلب وقت اضافي وكسب مهلة اضافية جديدة، يتلطى بعدها باقتراب موعد الانتخابات وقد يضطر الى تبكيرها. ويخطئ المفاوض الفلسطيني اذا اعتقد بأن مقترح نتانياهو مطروح للتنفيذ، ولاحقاً لن تخونه وقاحته في خلق الأعذار لعدم الالتزام بما سيتعهد به، ولن تعجز عبقريته عن افتعال الأزمات مع الفلسطينيين اذا لم يسعفه رهانه. ويخطئ أكثر اذا اعتقد بأن الرئيس كلينتون سيرفض اقتراح نتانياهو، أو انه سيمارس عليه ضغوطاً لتغيير موقفه. فالعكس هو المتوقع، وعلى القيادة الفلسطينية توقع تعرضها لضغوط أميركية سيمارسها روس واولبرايت وكلينتون مراعاة لأوضاع نتانياهو… وارغامها على القبول بثلاثة أمور أساسية: 1 الذهاب لمفاوضات الحل النهائي والاكتفاء بوعود نتانياهو بالانسحاب من المساحة المكونة من رقمين، التي يتفق عليها بحضور الرئيس كلينتون، وقبول وعوده الأخرى المتعلقة بتنفيذ بقية استحقاقات اتفاق الخليل ومنها فتح الممر الآمن واستكمال العمل في بناء الميناء وتشغيل المطار… الخ. 2 الموافقة على دخول مفاوضات الحل النهائي بناء على وعود مقدمة. 3 التزام تنفيذ المهمات الأمنية المطلوبة منها وفق المعايير الاسرائيلية في مكافحة الارهاب، والموافقة على التعديلات الاسرائيلية المقترحة على صيغة العمل الأمنية الثلاثية الاسرائيلية - الفلسطينية - الأميركية. لا شك ان المصلحة الوطنية الفلسطينية تفرض على المفاوض الفلسطيني الصمود داخل غرف المفاوضات وخارجها، والتحلي بالهدوء وبطول النفس، والتسلح بالحقوق الواردة في الاتفاقات وبالحالة الشعبية في مقاومة الضغوط متعددة الجنسيات، والاصرار على التمسك بالمطالب الأساسية، وبخاصة تجميد الاستيطان، والانسحاب من الأرض ورفض أي تأجيل جديد له، والتجربة اثبتت ان ذلك أمر غير ممكن وضروري وصحيح ومنتج أيضاً. وحتى لا يتكرر المشهد لا بد من قرار فلسطيني استراتيجي بإحداث تغيير نوعي في الأولويات الفلسطينية قبل اجراء التعديل أو التغيير الوزاري، وذلك لتركيز الجهود الوطنية باتجاه هذا الهدف الرئيسي وتسخير كل الطاقات في خدمته بعكس ما كان حاصلاً منذ اتفاق أوسلو حتى الآن.