في عام 1938 كان شبح يخيّم على أوروبا، هو غير شبح الشيوعية الذي كان كارل ماركس وفردريك انغلز تحدثا عنه قبل ذلك بقرن تقريباً. الشبح الجديد كان الجيش الألماني والنازية الهتلرية. فطبول الحرب كانت بدأت تقرع، والشعوب الأوروبية ترتعد خوفاً، او تضطرب توقعاً، فيما المناورات وكواليس اللحظات الأخيرة، والاتفاقات الثنائية تشتغل هنا وهناك، لعل فيها ما يؤخر زحف الفرسان التوتانيين الجدد، رجال هتلر، للتوسع في طول اوروبا وعرضها. ومن بين تلك الشعوب كان الشعب السوفياتي، إذ، على رغم علامات «التقارب» بين موسكو وبرلين، أو بالأحرى بين ستالين وهتلر، كان ثمة في الأفق ما يقول ان الحرب واقعة لا محالة، عاجلاً أو آجلاً، بين الأمتين. وكان على الفن ان يلعب دوره وأن ينبّه، وأن يجيّش ويثير الحماسة. أو هذا، على الأقل، ما كان يراه في ذلك الحين واحد من اكبر المخرجين السينمائيين السوفيات، وواحد من اكبر فناني السينما في العالم سيرغاي ايزنشتاين. وهذا الفنان رأى كما يبدو الفرصة سانحة ل «خدمة وطنه وشعبه» وفي الوقت نفسه للتصالح مع السلطات الستالينية التي كانت أبدت عدم رضاها عن فيلمه السابق «مرج بيجين» فلم يكمله. في ذلك الحين كان ايزنشتاين يعيش مجموعة الأزمات الناتجة من صراعه مع سلطة راحت منذ اوائل الثلاثينات تتشدد اكثر وأكثر في قمع الفنانين، وكذلك عن فشل مشاريعه الخارجية ومنها مشروعه الهوليوودي عن المكسيك. ولما وجد نفسه عاجزاً عن استكمال «مرج بيجين» رأى الفرصة سانحة لتقديم فيلم وطني قوي، يلامس الوضع السياسي العام، من خلال فصل من تاريخ روسيا. والأهم من هذا: ينال رضا ستالين، اذ يحاول لمرة نادرة منذ ثورة تشرين الأول (اكتوبر) 1917، ان يعطي البطولة لفرد وزعيم شعبي، بدلاً من ان تكون بطولة جماعية للشعب كما جرت الأحوال خلال العصر الذهبي للبلشفية. وهو وجد في حكاية مقاومة الأمير الكسندر نيفسكي غزو الفرسان التوتانيين (الألمان) روسيا في القرن الثالث عشر ضالته: فالوطن المهدد هو روسيا، والخطر آت من الألمان الغزاة الأقوياء، اما الخلاص فعلى يد الأمير ألكسندر الآتي من صفوف الشعب ليقاوم الغزاة ويقضي على الخطر المحيق بروسيا المقدسة. وكان ايزنشتاين يعرف بالطبع، ان التوازي بين الكسندر وستالين سيكون منطقياً ومرضياً عنه، وهكذا، في سرعة عجيبة، أنهى ايزنشتاين هذا الفيلم. وحدث ما يشبه المعجزة: الفيلم الذي كان مقدّراً له ان يكون مجرد حلقة في دعاية سياسية، ومجرد شريط وطني يستنهض الهمم، تمخض عن تحفة فنية لا تزال حية حتى اليوم، بعدما زال ستالين ورحل صانعو الفيلم، وزال خطر الغزو عن روسيا. ذلك ان ايزنشتاين، وبفضل تعاونه مع الموسيقي الكبير بروكوفييف، تمكن من ان يجعل «الكسندر نفسكي» أشبه بأوبرا سينمائية من طراز استثنائي. إذ هنا عرف كيف يمزج ألحان بروكوفييف التعبيرية، مع صوره الرائعة التي استغل فيها الى ابعد حدود الاستغلال، اللون الأبيض، لون الجليد الذي يغطي بحيرة «بيبوس» التي ستدور عليها المعركة الرئيسة التي عبرها هزم الأمير الروسي الشعبي المحبوب، غزاة بلاده. تدور احداث «الكسندر نفسكي» حوالى العام 1241، حين كان الأمير الكسندر نفسكي يعيش ويحارب في منطقة زوابع يهددها خطر الغزوات المونغولية في الجنوب الشرقي لروسيا. لكنه اذ يجد نفسه مرة في زيارة لمدينة نونغورود يعرف ان روسيا بأسرها باتت تحت تهديد الفرسان التوتانيين الأقوياء المدجّجين بالأسلحة القوية والزاحفين على الدوام مثل مدرعة لا تقهر. ويعرف نفسكي ايضاً أن الأعيان والزعماء ورجال السياسة والبلاط يتطلعون الى الاستسلام امام العدو الزاحف، خوفاً أو تواطؤاً، بينما الشعب يصر على المقاومة، لأن هذا الشعب يعرف ان اي تواطؤ يقضي على حريته واستقلاله ويجعله عبداً للجيران الغربيين. وهكذا، في خضم تلك الأوضاع العاصفة ينهض الشعب متطلعاً ناحية الأمير الشاب البطل ويطلب منه ان يقود المقاومة ضد المحتلين. ومن الطبيعي ان نفسكي يقبل المهمة، في وقت كان الألمان احتلوا مدينة بسكوف وراحوا يعيثون فيها خراباً وقتلاً ودماراً، وبدأوا يتجهون شرقاً محققين انتصاراتهم. لكنهم إذ يواصلون الزحف ويصلون الى جوار بحيرة «بيبوس» يكون الأمير الكسندر ورجاله في انتظارهم. إن الأمير يعرف ان الفرسان الغزاة اقوى من قواته، وأنهم يهاجمون في تلاحم وقد أخفوا وجوههم بحيث يبدون كآلة حرب صاعقة تقتل خصومها بالرعب، قبل قتلهم بالسيف. ويدرك الأمير ايضاً انه لا يمكنه ان يجابه عدواً جباراً من هذا النوع، عبر حرب تقليدية. لذلك نراه يلجأ الى تلك الحيلة الشهيرة التي لطالما ذكرت في الحكايات الشعبية، وتقوم هنا، في تطبيقها العسكري، على جر الجيش المعادي نحو البحيرة المتجلدة، وإذ تصل القوات الغازية إليها، ينكسر الجليد السميك تحت وزرها وبفعل تحوّل القوة العسكرية الى كتلة حديد متراصة. وبالفعل ما أن يصل الفرسان التوتانيون الى البحيرة حتى ينكسر الجليد ويغرق ألوف الفرسان، ما يؤمن النصر للروس بزعامة نيفسكي، من دون ان يجبروا على خوض قتال حقيقي. ويتقدمون حتى تحرير بسكوف وقد كلل غار النصر هاماتهم. الحكاية في شكلها المروي هنا تبدو بسيطة للغاية، وتنتمي الى الحيلة وإعمال العقل، اكثر من انتمائها الى القوة والمقاومة والشجاعة. غير ان هذا لم يكن المهم في الأمر. المهم بالنسبة الى ايزنشتاين كان الإشارة الى أن في إمكان بطل آت من صفوف الشعب اختاره الشعب، ان يتغلب على الخوف، لأن الخوف هو العدو الأول. والمهم بالنسبة إليه كان ايضاً، ان يستخدم ابتكاراته السينمائية الشكلية في فيلم «مفيد» - على حد تعبيره يومها -. وهكذا في خلفية تصريحات شديدة الوطنية - الى حد الشوفينية التي كانت تتعارض مع النزعات الأممية السابقة لدى امثال ايزنشتيان من الفنانين الأمميين -، كان ايزنشتيان يعرف انه إنما يحقق عملاً فنياً حقيقياً. وهكذا، إذ نراه يقول لمن يجب ان يسمع: «الوطنية هي موضوعنا الرئيس»، نجده يشير من ناحية اساسية الى «انني بخلاف بقية زملائي، كنت اخوض بداياتي في مجال السينما الناطقة وكنت أرغب في ان اختبر كل ما كنت اختزنته في داخلي طوال سنوات وسنوات». وفي هذا الإطار كانت كبيرة «مساهمة بروكوفييف الذي هرع لتقديم يد العون إلي». فالحال ان الموسيقى تلعب في هذا الفيلم دوراً كبيراً، يوازي الدور الذي تلعبه الصورة، ما جعل مؤرخي السينما يتحدثون عن «الكسندر نفسكي» كونه أول «أوبرا سينمائية حقيقية». وحتى اليوم لا يزال ذلك التزاوج الخلاق بين الموسيقي والصورة قادراً على ادهاش المتفرجين. ولعل الأهم من هذا ان ايزنشتاين تمكن في هذا الفيلم من ان يتفادى التركيز على التعقد السيكولوجي للشخصيات، لا سيما شخصية الكسندر نفسكي نفسه، حتى حين يغوص في ثنايا نوازعه قبل الوصول الى قرار حاسم. وهذا ما جعل الباحثين يقولون انه طوّر، من ناحية الغوص في تردد شخصياته، أساليب شيلر وشكسبير في الوقت نفسه. عندما حقق ايزنشتاين «الكسندر نفسكي» كان في الأربعين من عمره. فهو ولد عام 1898 في مدينة ريغا. وايزنشتاين كان في الثامنة من عمره حين شاهد، في باريس، اول عرض سينمائي في حياته، فوقع في هيام الفن السابع، وما ان بلغ سن الشباب حتى راح يخوضه بعدما دخل الفن من باب المسرح والرسم والكتابة، وإن كان قد درس الهندسة المدنية في بتروغراد. وهو في عام 1917 انتمى الى الميليشيا الشعبية البلشفية، ثم درس صف ضابط وتطوع في الجيش الأحمر، وبعد عودته من الجبهة خاض العمل المسرحي رساماً للديكور ثم مخرجاً. ومن المسرح انتقل الى السينما. ولئن لم يحقق للفن السابع سوى عدد ضئيل من الأفلام، فإن معظم افلامه، لا سيما «اكتوبر» و «الدارعة بوتمكين» و «إيفان» (في قسميه) تعتبر تحفاً سينمائية، خصوصاً أن ايزنشتاين طبق فيها اساليبه المبتكرة في فن التوليف (المونتاج)، وتمكن من ان يمرر في ثنايا بعضها رسائل سياسية متمردة، في بعض الأحيان، ما جعله خلال مراحل من حياته محل غضب السلطات، لا سيما في آخر سنواته، هو الذي رحل عام 1948 في عز مرحلة القمع الستاليني. [email protected]