من ناحية مبدئية، من الصعب ان نطالع شيئاً عن حياة مبدع من المبدعين وفي أيّ مجال من المجالات من دون ان نكتشف انه عندما رحل خلّف وراءه الكثير من المشاريع الإبداعية التي لم يقيّض له تحقيقها خلال حياته. وغالباً ما يكون السبب ضيق الوقت او السأم او أيّ ظرف خارجي او داخلي. فالواقع ان الأسباب هنا تتعدد بتعدد هؤلاء المبدعين. ولكن في عالم الفن السينمائي من المؤكد ان اسباب عدم تحقيق كثر من الفنانين الكبار، بعض مشاريعهم الأعز على أفئدتهم، تختلف كثيراً عن اسباب الآخرين. وذلك بالتحديد لأن المشروع السينمائي في حدّ ذاته مشروع مركّب من النادر جداً ان يتاح لمبدعه الإمساك بمفاصله كلّها، وغالباً لأسباب مالية انتاجية وفي مرّات اقل قد تكون الأسباب فكرية او سياسية. وينطبق هذا في شكل خاص على مبدعي السينما الكبار من الذين تحفل سيرهم بمثل تلك الأفلام/الشبح. لقد اعتاد مؤرخو السينما - ونقادها - حين يأتون على ذكر هذه المشاريع المجهضة على اعتبارها من اهم «اعمال» هؤلاء المبدعين وذلك لسبب واضح: ان المبدع من هؤلاء، حين يحقق أيّ واحد من مشاريعه التي ترى النور حقاً، يكون في معظم الحالات قد مرّ بها في مراحل تنفيذ وإنتاج متلاحقة وخاضعة لإسهامات عدة من آخرين. وفي العرف الإبداعي تكون كلّ مرحلة مناسبة لتنازل ابداعي ما - طالما ان الإبداع السينمائي هو في مقدمة الإبداعات المركبة ! - بحيث ان معظم المبدعين الكبار يكونون محقّين اذ يقولون في نهاية الأمر انهم بالكاد قادرون على التعرف على ابداعهم بعد انجازه. وتلك هي على اية حال الضريبة التي لا بد منها لجعل ايّ مشروع من هذا النوع متحققاً. لكن المشاريع التي ينتهي امرها مجرد مخطوطات لسيناريوات تعيش بقية عمرها في محفوظات المبدعين وقلوبهم وعقولهم، لا تدفع تلك الضريبة. انها تكمل حياتها ببراءتها الأولى كجزء من ابداع السينمائي لعله في أغلب الأحيان الجزء الأكثر أمانة لحسّه الإبداعي وفنّه الحقيقي. ومن هنا ثمة دائماً في تاريخ السينما او بالأحرى في تاريخ السينمائيين، مكان متميّز للحديث عن هذه الأعمال. وهنا، بدءاً من اليوم، وعلى مدى الملاحق المقبلة، نقدم سلسلة من المراجعات لعدد من ابرز الأفلام/الشبح هذه، اخترنا أن نتحدث فيها عن الظواهر الأشهر في هذا السياق. ولعل مناسبة نشر هذه السلسلة بالنسبة الينا صدور واحد من اغلى الكتب السينمائية ثمناً في التاريخ (نحو 500 دولار للنسخة الواحدة) وهو كتاب ضخم صدر في الكثير من اللغات الأوروبية وموضوعه واحد من أشهر الأفلام التي لم تحقق في تاريخ السينما. هو فيلم خطط له صاحبه ستانلي كوبريك سنوات طويلة كي يتحدث فيه عن نابوليون، لكنه في نهاية الأمر رحل من دون ان يحققه. مشروع «نابوليون» هذا سيكون موضوع الحلقة المقبلة من السلسلة. اما هنا فسنعود سنوات عدة الى الوراء لنتوقف عند واحد من اشهر «نتاجات» هذه الفئة من الأفلام ونعني بهذا، طبعاً، فيلم «لتحيا المكسيك» للسوفياتي الكبير المبدع سرغاي إيزنشتاين... فالبداية ستكون به، اولاً لمكانة صاحبه في تاريخ السينما وبعد ذلك لسبقه التاريخي، ثم - وهذا امر في غاية الأهمية - لأن ثمة، وعلى رغم مما نؤكد هنا، فيلماً موجوداً بالفعل له العنوان نفسه ويحمل - مبدئياً - توقيع ايزنشتاين، بل ايضاً ثمة افلام عدة ولدت من رحم هذا الفيلم. فهل ثمة من سبيل حقيقي للاعتقاد بأن «لتحيا المكسيك» ليس فيلماً/شبحاً... ما يناقض كل ما نذهب اليه في كلامنا هنا؟... لنر! بين المساعدين والأبناء تبدأ حكايتنا هنا في العاصمة السوفياتية خلال دورة عام 1979 لمهرجان موسكو السينمائي. يومها وكان كاتب هذه السطور واحداً من ضيوف المهرجان، فوجئنا بالاعلان عن العرض العالمي الاول لفيلم «لتحيا المكسيك» ل... سرغاي ايزنشتاين. وبالفعل عرض «الفيلم»، الذي اعاد تركيبه غريغوري الكسندروف، مساعد ايزنشتاين ومشاركه في كتابة النص الاصلي للفيلم الذي كان منذ بداية سنوات الثلاثين يعتبر واحداً من اساطير تاريخ السينما. طبعاً كان امامنا على الشاشة عمل يحمل في لقطاته وأجوائه سمات عدة من عبقرية مخرجه الأصلي، لكنه في مجموعه كان عملاً ثانوي الاهمية. ومن هنا سرعان ما طوى النسيان تلك المحاولة الجديدة - والاكثر جدية على اي حال - لإحياء مشروع ايزنشتاين المجهض عن تاريخ المكسيك. ونقول هنا «المحاولة الجدية» لأن الواقع يفيدنا بأن منذ فشل المشروع واعترف ايزنشتاين بخيبة امله إزاء تجربته الاميركية في شكل عام، جرت محاولات عدة (بين عامي 1933 و1954) لصنع فيلم عن الموضوع نفسه، او اجزاء منه، تستفيد من ألوف الامتار التي صورها عبقري السينما العالمية وأودعت كلها في هوليوود بمعرفة الكاتب ابتون سنكلير، الذي كان في الاصل رائد المشروع والدافع اليه، والذي هو الآخر سيكون آخر سنوات الستين، وراء صدور كتاب في غاية الاهمية عنوانه «صنع ولا صنع لتحيا المكسيك»، روت فصوله حكاية الفيلم وحكاية ايزنشتاين معه، من الألف الى الياء. وما جاء في الكتاب يبدو موثقاً ومقنعاً، حتى وإن كان ينقصه امر اساسي وهو وجهة نظر ايزنشتاين. ذلك ان الاخير كان رحل عن عالمنا منذ زمن، وفي قلبه غصة من حول «لتحيا المكسيك» بين غصات عدة اخرى. اما المحاولات التي نشير اليها فأبرزها محاولة سول ليسسر التي اتت بعنوان «عاصفة على المكسيك، إيزنشتاين في مكسيكو» و «يوم الموتى» اضافة الى عمل في مجال تصوير جزء من سيرة ايزنشتاين حققته المؤرخة والناقدة ماري سيتون بعنوان «زمن في الشمس». اصل الحكاية هذا كله قد يبدو في السطور السابقة اشبه بجملة من الكلمات المتقاطعة، لذلك نعود لنوضح ان الفكرة قد واتت إيزنشتاين اصلاً بعد لقاء في موسكو جمعه عام 1927 مع الرسام دييغو ريفيرا الذي كان يزور العاصمة السوفياية ضيفاً على احتفال السوفيات بمرور 10 سنوات على انتصار الثورة البولشفية. يومها خلال اللقاء قال ريفيرا انه شاهد تحفة ايزنشتاين «الدارعة بوتمكين» وأنه منذ تلك المشاهدة اخذ يحلم بأن يكون لتاريخ المكسيك عمل سينمائي مشابه. وهكذا اذا ولد المشروع كفكرة ثم تكرر ليموت لاحقاً بعدما صوّر إيزنشتاين 35 ألف متر من الافلام هناك، إذ أبلغه شريكه الاميركي (ابتون سنكلير، صاحب رواية «المسلخ» الشهيرة والذي عاد الى واجهة الحياة الأدبية والفنية في هوليوود قبل اعوام قليلة حين اقتبس السينمائي بول توماس اندرسون روايته الشهيرة «بترول» في فيلمه الرائع «سوف تكون هناك دماء») أن المشروع توقف ولم يعد مسموحاً له هو نفسه إيزنشتاين، من السلطات الاميركية، بالعودة الى الولاياتالمتحدة وكان القرار يشمل كذلك رفيقي المبدع السوفياتي المصور ادوارد تيسيه والمساعد غيورغي الكساندروف. مهما يكن، فإن مغامرة إيزنشتاين الأميركية هذه كانت بدأت عملياً قبل سنوات، أي منذ قرر ايزنشتاين، اثر مشكلات جابهته في وطنه السوفياتي وإثر خلافات عدة مع سلطات هذا الوطن الستالينية، ان يذهب الى هوليوود استجابة لدعوة تلقاها من استوديوات «باراماونت» للعمل هناك. وهكذا اصطحب معه مساعده الاثير الكسندروف، ومصوره المبدع ادوارد تيسيه وتوجهوا الى عاصمة السينما. صحيح ان الشركة لم تبخل عليهم بالمال، اذ واظبت على دفع مرتب شهري له ولرفيقيه، لكنها عجزت عن الاستجابة لأي من المشاريع التي عرضها، فلا هي اقتنعت بتصوره ل «حرب العوالم» عن رواية ه. ج. ويلز، ولا هي وافقت على مشروع لتحويل رواية «ذهب» لبليسّ سندرارس او «مأساة اميركية» لدريزر الى فيلم (وكلها وغيرها كانت مشاريع عرضها ايزنشتاين واشتغل عليها). ازاء هذا كله بدأ ايزنشتاين يسأم ويسأل عما اذا لم تكن حاله الجديدة امام «ديكتاتورية رأس المال» اسوأ كثيراً من حاله السابقة امام «ديكتاتورية البروليتاريا»؟ وهنا في هذه اللحظة بالذات جاءه الفرج: تذكّر السينمائي الفكرة التي كان ريفيرا قد طرحها عليه قبل شهور وأخبر بها صديقه الكاتب والمناضل الاشتراكي سنكلير الذي سرعان ما تمكن من ان يجمع من بعض الشركات والرأسماليين الاميركيين - ومن بينهم مصانع جيليت للشفرات (!) - مبالغ تكفي لتمويل فيلم عن تاريخ المكسيك الحديث في وقت كانت فيه المكسيك على الموضة. وهكذا انطلق صاحب «الدارعة بوتمكين» و «اكتوبر» يومها الى المكسيك مع مساعديه وبدأ يصور ألوف المشاهد وغايته ان يحوّل كل ذلك في نهاية الامر الى فيلم طويل جداً، يرصد تاريخ هذا البلد الفاتن، منذ ديكتاتورية بورفيريو دياز، حتى الثورة التي اندلعت بين عامي 1910و1916، مع توقف في النهاية عند تصوير الحال الراهنة لهذا البلد الذي كان يعيش زمن تصوير الفيلم فترة لا بأس بها من تاريخه الثوري التقدّمي، ما يفسر الاستقبال الرسمي الطيب الذي كان من نصيب الفيلم والطاقم العامل عليه. لم يكن الاستقبال رسمياً فقط، بل ايضاً من القوى التقدمية والديموقراطية التي كانت تهيمن على الحياة الثقافية الى حد كبير. من هنا اندفع ايزنشتاين في عمله وراح يصور، في حماسة شديدة، كل مظاهر الحياة وآثار التاريخ، يستنطق البشر والحجر، ويطل على التاريخ القديم والحديث. وكان من الواضح مدى افتتان المخرج بهذا البلد وتاريخه. اما المشروع الذي كان يداعب خياله، فكان يقوم على عمل من اربعة اجزاء وخاتمة: يحمل الجزء الاول عنوان «فييستا»، والثاني «ساندونغا»، والثالث «ماغوي»، اما الرابع فعنوانه «لاسولداديرا»... اما الخاتمة فتتوقف عند مظاهر الحياة والتقدم في المكسيك زمن تصوير الفيلم. وللوصول الى مشروعه الذي كان يتعين عليه، في نهاية الامر، ان يكون مشروعاً توليفياً، راح ايزنشتاين يصور ما يشبه الخبط عشواء ظاهرياً. اما في الحقيقة، فإنه كان يرتب المشاهد والتفاصيل في ذهنه وعلى اوراقه، كما دأبه دائماً. اما ما يصوره، فكان يرسله تباعاً الى ابتون سنكلير في الولاياتالمتحدة. ولكنّ ذلك كله توقف ذات يوم في شكل مباغت عند بدايات عام 1932، فيما كان ايزنشتاين يصور بعض المشاهد الاخيرة الخاصة بالجزء المعنون «لاسولداديرا»، إذ جاءه النبأ اليقين من سنكلير: اوقف تصوير اي شيء آخر. وكان في ذلك بداية النهاية للمشروع، حتى وإن كان قد اجتمع لسنكلير عشرات ألوف الامتار من مشاهد وصور رائعة في حاجة الى فنان عبقري كان اصلاً احد كبار مبتدعي فن التوليف (المونتاج) ليعيد جمعها وتركيبها محولاً اياها الى فيلم، او افلام عدة كبيرة. العودة قسراً الى الوطن فشل المشروع، اذاً، وانتهت مغامرة ايزنشتاين الاميركية وعاد صاغراً الى الاتحاد السوفياتي ليواجه هناك، ومن جديد، عشرات المشكلات والاخفاقات. اما «الفيلم» نفسه فلسوف يكون له كما أشرنا اعلاه مصير آخر تماماً... اذ هناك اليوم، افلام عدة ولدت منه - اذا استثنينا فيلم الكسندروف (مفاجأة مهرجان موسكو!) الذي يبدو من الناحية التقنية فقط، الاقرب الى ما كان ايزنشتاين يريد قوله، من دون ان يكون الاقرب الى الكيفية التي كان ايزنشتاين يريد ان يقوله بها. ومن هنا ذلك التفاوت الكبير في الفيلم، بين بيئة اللقطات وبيئة المشاهد والفصول التي ركبت بمعرفة الكسندروف. المهم ان سرغاي ايزنشتاين لم ير ابداً نتائج عمله الباهر على هذا الفيلم الذي حققه بعد «الاضراب» (1925) و «الدارعة بوتمكين» (1926) و «الخط العام» و «اكتوبر» (1928)، وقبل ان يعود الى وطنه ليحقق «ألكنسدر نيفسكي» (1938) و «ايفان الرهيب» في جزءيه، اللذين كانا آخر انجازاته السينمائية ومحور معاركه الاخيرة مع الستالينيين.