أصيب «حزب الله» في لبنان في الأشهر الأخيرة بعدد من السهام يبدو أنه هو من تولى رمايتها على نفسه! ولشدة تلاحق السهام وتواترها يميل المرء إلى الاعتقاد بمؤامرة ما تستهدف الحزب، لولا استعادته حقيقة أن الحزب اتسع وامتد إلى حد صار فيه جسمه جهازاً لاقطاً للنصال من أين ما جاءت. قال الحزب عن نفسه إنه يمتلك مناعة ازاء أي محاولة لاختراقه، وذلك في سياق دحضه افتراض أن يكون ثمة من اخترقه وتولى باسمه اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري، وإذا بالسيد حسن نصرالله يعلن بنفسه كشف شبكة متعاملين مع إسرائيل وأميركا من بين كوادره، وإذا أيضاً بالحكايات تنتشر في أزقة الضاحية الجنوبية لبيروت عن هؤلاء المتعاملين وعن وجودهم بالقرب من القيادة الأمنية والعسكرية للحزب. خاض الحزب معارك داخلية ضارية مستعملاً وثائق «ويكيليكس» في وجه خصومه. حمل نصرالله الوثائق بيده ولوّح بها في خطبه. قال إن الحزب بصدد تحضير ملف قضائي سيتقدم به إلى المحاكم اللبنانية ضد رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة وسيتألف الملف من وثائق «ويكيليكس»، فإذا بالسحر ينقلب على الساحر، وإذا بوثائق جديدة تكشف أن جميع حلفاء الحزب من دون استثناء تقريباً قالوا للسفير الأميركي في بيروت جيفري فيلتمان عن الحزب ما لم يقله خصومه عنه. فلم يجد الحزب وقيادته بداً من مهاجمة الوثائق وأبلستها بعد أن كان قبل أسابيع قليلة قد اعتبرها وثائق لا تدحض، سيبني على أساسها ملفاً قضائياً. والحال أن الحزب شعر بأنه لا بد من تكذيب الوثائق «الصادقة» إنقاذاً لحلفاء يدرك هو تماماً حقيقة مشاعرهم تجاهه، لكنه يدرك أن تبرئتهم ضرورة وحاجة في هذه المرحلة، وهذا منتهى الألم. ذاك أن أقسى ما يمكن أن نختبر به أنفسنا هو أن نكون مجبرين على العيش مع من نعرف أنه لا يحبنا، وأن نسمع منه كلاماً عذباً ندرك أنه غير صحيح. شطب الحزب وجهه بالوثائق الشيطانية هذه، قبل أن يتمكن من «بناء» الملف القضائي، هذا الملف الذي صار اليوم في حوزة خصومه. استثمر الحزب في علاقته مع ميشال عون حتى عنقه. استفاد من هذه العلاقة، واستعمل التيار العوني منصة سياسية واجتماعية وأهلية. وفي هذا السياق تم ترويج ميشال عون بصفته «المقاوم الجديد». ميشال عون «الاستقلالي وغير الملوث بالفساد وبالحروب اللبنانية وغير الطائفي»، كل هذه الصفات أضيفت إلى الرجل في إعلام الحزب وفي منطوق قادته، وفي صور الجنرال التي راحت ترفرف إلى جانب صور نصرالله في الضاحية الجنوبية. وإذا بالقدر مرة أخرى يعصف بالحزب، فأقرب مساعدي الجنرال عون عميل إسرائيلي! والعمالة في مأثور الحزب وفي وجدان مجتمعه وأهله أمر لا تساهل فيه، أو هذا ما كان يعتقده أهل الحزب ورهطه. لكن «الكأس المرة» التي قال الخميني ذات يوم إنه لا بد من تجرعها، عندما أعلن قبوله قرار وقف الحرب العراقية - الإيرانية، تجرعها هذه المرة السيد نصرالله ولكن من دون أن يتسنّى له إعلان مرارتها على نحو ما فعل مرشده الراحل. إذاً، لا بد من القبول بعمالة كرم. لا بد من الصمت، بعد أن كان الأمين العام دعا إلى تعليق المشانق للعملاء، وعدم التساهل في الأحكام بحقهم. لا بد من تمرير الحكم المخفف وغير المنطقي الذي صدر بحق كرم، ولاحقاً لا بد من القبول بأحكام أخرى مشابهة. ومرة ثانية شطب ميشال عون وجه الحزب بملف العملاء، فأكل الأخير تفاحة ثانية أين منها تفاحة آدم عليه السلام، لا سيما أن صمته في موضوع كرم سيجر صمتاً لطالما بنى خطابه على نقيضه. فاليوم صار صعباً الوقوف على المنابر والتلويح ب «عمالة» الخصوم. قد يفعلها «حزب الله» من جديد، لكنه صار يشعر بمدى ابتذالها وركاكتها. أطاح «حزب الله» سعد الحريري من رئاسة الحكومة بعد خلاف غامض معه على موضوع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. وبذل الحزب، ومعه سورية، في عملية الإطاحة ماء وجه محلياً وإقليمياً. كانت الإطاحة بداية لانفراط عقد العلاقة مع قطر ومع تركيا، وعلى المستوى الداخلي قرر الحزب أن لا بد من دفع فاتورة تعميق الأزمة مع الطائفة السنّية في لبنان. والثمن المنطقي لكل هذا كان علاقة لبنان دولة وحكومة مع المحكمة الدولية، وملفات أخرى تتعلق بها، من نوع تغيير الجهاز الأمني والقضائي الرسمي الذي تعاون مع المحكمة وقاد المرحلة ال «14 آذارية» في الحكم. لكن الرئيس الجديد للحكومة وجد نفسه محاصراً من طائفته على نحو لا يتيح له تأمين شيء واحد للحزب. لا يمكنه التنصل من التزام حكومته - وهي أيضاً حكومة «حزب الله» - المحكمة الدولية، ولا يمكنه (أي رئيس حكومة لبنان وحكومة الحزب) أن يقبل بتغيير ضباط قوى الأمن الداخلي ومدعي عام التمييز، وغيرهم من الموظفين. وهو إذا فعل لن يتمكن من الوصول إلى منزله في طرابلس. واليوم يبدو الحزب في أغرب أوضاعه على الإطلاق، فهو مشارك في حكومة تموّل محكمة تتولى إدانة مسؤولين فيه! وفي ذلك أيضاً مرارة من يدفع من جيبه ثمن قيوده. إنها السهام المركزية التي أصابت صدر الحزب في الأشهر القليلة الفائتة، ولكن تتفرع منها سهام أخرى لا تقل إيلاماً، من نوع تلك النصال التي «تكسرت على النصال» عندما همّ المتنبي في رثاء نفسه... بدءاً بظاهرة انفجار «قوارير الغاز» في الضاحية الجنوبية، وصولاً إلى المشاحنات في القرى الجنوبية حول بيع الكحول. قال مراقب لحال الحزب، إن كل ما ورد أعلاه صحيح، لكنه لن ينعكس على قدرة الحزب على الاستقطاب في ظل المناخ الطائفي المشحون في لبنان. وقال آخر إن الحزب كبر وترهل وما عاد بإمكانه ضبط هوامشه، بل إن الهوامش بصدد الزحف إلى المتن. من المفيد ربما أن نقع في حيرة بين هاتين الحالين، لا سيما أننا في مرحلة انتظار ربما تكون طويلة!