تلقي الأحداث التي تشهدها المنطقة العربية بظلالها على الدراما بفضاءاتها المختلفة، المسرح والتلفزيون والسينما. في عمله الجديد، ينتهج الفنان نبيل صوالحة أمسيات فنية رمضانية لا تفتتح بالكلام المعهود «كان يا مكان»، مفضّلاً أن تكون البداية بكلمة «ارحل»، وهو عنوان مسرحيته الكوميدية التي أطلقها قبل أيام في فندق «شيراتون» -عمّان، من تأليفه وإخراجه وتستمر عروضها حتى 30 آب (أغسطس) الجاري. وعلى رغم أن المسرحية، التي يعزف على الوتريات الموسيقية فيها عادل مصطفى، جاءت بمعطى ذي دلالات موحية ومرتبطة بالراهن العربي، أي شعار «ارحل»، إلا أن صوالحة أفاد في لغته المسرحية من جماليات الموروث الشعبي، الاجتماعية والدينية على السواء. فبدأ بلوحة «الله حي»، ليتبعها بأغنية «يا أبو عبدالفتاح، الشعب العربي طاح، ع الشارع طاح». ويستمر في السياق نفسه، إنما بمراوحة الرؤية الإخراجية بين ضخّ زخمٍ ساخر، عبر أغانٍ ذات نبرة تهكمية من نوع «إصلاح سياسي... إصلاح بوابير الكاز»، وبين مسخرة الحدث على طريقة «الإصلاح يعني تبديل وزير بوزير في الحكومة نفسها». المسرحية، التي وضع الإيقاع والديكور لها خليل أبو حلتم، تهدف إلى تعرية أساليب القمع الفكري والأمني. وتتجه المعالجة الدرامية إلى سياقات وجودية، كما في اللوحة التي ترصد محاولات خروج الإنسان من رحم أمه، حتى يجيء إلى الحياة ضمن عمليةٍ قاسية مروراً بنموّه وانتهاء بنضوجه المكتئب، إذ يظل مسكوناً بالهاجس الأمني الذي يجثم على قلبه وعقله في آن واحد. يقول صوالحة ل «الحياة»: «يتوّج هذا العمل عقدَين من عملي في المسرح الكوميدي الذي اتَّخَذْتُه وسيلتي لإظهار الحال الخاصة للناس، والأوضاع العربية عامة، وما فقدناه من كرامة وأرض، وعقول خلاّقة هربت من العسكرة الفكرية، والتخويف بعدم الخروج عن الدائرة المرسومة لنا كمواطنين، فإن شئتَ أن تحيا في أمان لا يتيسّر لك ذلك إلا تحت أجنحة تتركك تعيش إذا تركتَها تحجب ضوء الشمس عنك». وتأتي حكاية المسرحية على مستويين: الأول ظاهري، حين ييأس فريق مسرحي يأتلف من يوسف كيوان ولارا صوالحة وبان مجالي وعبدالله كيوان، من صلاحية رئيس فرقتهم في قيادة مسارهم الفني، فيخرجون في تظاهرة فنية تحت شعار «ارحل». بينما ينشغل المستوى العميق في مطالبة النظام العربي الرسمي بأشكاله وهيئاته المختلفة، بالرحيل، لإفساح المجال أمام دم جديد. المفهوم الأخير تطرحه حوارات الشخوص، حين تردد ألسنتهم: «لقد أصبح النظام الرسمي في حالة (expiry date) أي منتهية الصلاحية». في هذه المسرحية، حيث تحضر جماليات الأغنية المشاركة بقوة تعبيرية كبيرة للأخوين كيوان، يستعيد صوالحة أسلوبه الأثير في تقليد الزعماء العرب: جمال عبد الناصر، أنور السادات، حافظ وبشار الأسد، صدام حسين، معمر القذافي، ياسر عرفات، الملك حسين، وغيرهم. غير أنه يضفي تناولات كوميدية، دونما أيّ تجريح، حول ما فعلته الشعوب العربية بحكّامها المخلوعين: «علي عبدالله صالح صار وجهه مشحبر بالسواد، والقذافي بيحكي خطاباته النزقة من الهاتف، ومبارك بيحاكموه على التخت». في هذا السياق، يوضح صوالحة أن «عنوان ارحل، ليس استغلالاً رخيصاً للكلمة، وإنما معنىً يقود العالم إلى التغيير، نظرة ساخرة لمن لا يريدون الرحيل من أجل الحفاظ على مصالحهم الخاصة». الرؤية الإخراجية للعرض الذي صمم إضاءته حسين فاشة، اشتغلت على تغيير أنماط اللحن والمعنى في الأغاني، فأنشأت فضاءات ومناخات متغيرة، تتناغم مع مزاج الجمهور الذي أصبح يملّ السكون في المشهدَين البصري والسمعي. على هذا النحو جاءت الأغنية التي أدتها بالإنكليزية لارا صوالحة، وفق نمط أغاني الخمسينات ذات الشعرية المفعمة بالحزن والفرح الشفيفين المؤثرين، وبعيداً من المباشرة، لتتناول الحالة النفسية لرجل الأعمال الأردني خالد شاهين في أحد النوادي الليلية في لندن، هو «الهارب من وجه العدالة». لكن شخصية «شاهين» في المسرحية ترسل رسالة محددة، إذ تقول كلماتها: «سلّمولي على بينو»، في إشارة إلى سميح بينو رئيس دائرة مكافحة الفساد في الأردن التي لم تستطع حتى الآن «استعادة» شاهين بعد مغادرته سجنه وسفره إلى الخارج من دون علم جهات رسمية مختلفة، وذلك بحسب اللوحة الغنائية في الفصل الثاني من المسرحية. يقرّ صوالحة بأن البعض قد يعدّ أطروحات المسرحية «كلاماً كبيراً» على مسرح كوميدي سياسي. لكن الأحداث، كما يرى، تؤكد أن المشتغلين في الفن والثقافة والإعلام يثورون دائماً كي تكون الحال أفضل، بخلاف ثورات العسكر النابعة من التوق إلى السلطة وشهوة الاستبداد.