كلما تلبّدت أجواء السياسة بالغيوم، وازداد الوضع الاقتصادي والاجتماعي تعقيداً، يزداد الطلب على المسرح الكوميدي. هذا ما باتَ ظاهرة في غالبية البلدان، إذ طلب بعض مؤسسات المجتمع المدني في الولاياتالمتحدة، بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، من هوليوود ومراكز صناعة السينما والتلفزة، الاتجاه نحو الكوميديا وتجنب إنتاج أفلام العنف، وذلك في إطار معالجة «نفسيّة» استباقية لما قد يحدث مستقبلاً. فالضغط كما هو معلوم، يولّد الانفجار. ورغم التباين بين الحالتَين العربية والأميركية، إلا أن حالتنا الراهنة، بحسب الكوميدي الأردني نبيل صوالحة، تحتاج منا «مغادرة أجواء العنف والنزق النفسي والاجتماعي، ولو برهة من الوقت»، فليس هناك وسيلة أفضل من الكوميديا الراقية، لتنفيس الغضب. هذا ما أكده عرض «سهرة ممتعة» الذي قدمه صوالحة أخيراً في نادي السيارات الملكي في عمّان، وبأسلوب ال «ستاند أب كوميدي». وتناول العرض قضايا ساخنة يتجاذب أطرافَها المواطن والمسؤول على السواء، ابتداء من ارتفاع الأسعار، مروراً بتربية الأبناء، وانتهاء بانتقاد مجلس النواب على أدائه وثقته «العمياء» بالحكومة. وخلال ذلك، جالَ صوالحة بالجمهور في دول العالم، مختاراً مواقف وأحداثاً كساها بالطرفة، مثل استعادة ما جرى للرئيس التونسي السابق زين الدين بن علي، الذي قدمه الفنان من خلال موشّح «جادك الغيث»، مع تعديل على النّص الشعري ليحاكي الحالة التونسية. جاء كل ذلك وفق أسلوب كوميدي لا يخلو من تواصلٍ مع الجمهور الذي بات واضحاً أنه فضّل متابعة العرض، على مشاهدة الندوة الحوارية التي أعلن عنها التلفزيون الرسمي وجمعت بين نائب رئيس الوزراء أيمن الصفدي وأمين عام حزب جبهة العمل الإسلامي حمزة منصور، أحد أبرز أقطاب المعارضة في البلاد، للحديث حول الاعتصامات الأخيرة ونزول الناس إلى الشارع ومَطالب المعارضة وخطط الحكومة لمواجهة ارتفاع الأسعار والتضخم. وأتى انتهاج صوالحة المؤلف والمخرج لل «ستاند أب كوميدي»، منسجماً مع انتشار هذا الأسلوب بقوة في الأقطار العربية في الآونة الأخيرة وخصوصاً في المهرجانات، لأنه لا يخضع لمراقبة نصية معينة، ويخاطب الجمهور ويحاكي همومه ويتناول قضاياه وهواجسه بشكل مباشر، فضلاً عن قدرته على التقاط الحدث الراهن، وتوظيفه درامياً. وهذا ما تبدى في مَشاهد كثيرة، مثل إفادة لارا صوالحة التي شاركت في العرض، من معطيات وتعابير شائعة في الدراما التركية، التي تحظى بنسبة مشاهدة عالية عربياً، لدعوة الرجل العربي للتعامل برومانسية مع زوجته. فبحسب لارا، تستطيع أن تكون أفضل من «مهند» إذا حاولت الابتسامة لزوجتك، وصنعتَ فنجاناً من الشاي وأضأتَ شمعة لها، وساعدتَها أيضاً في أعمال المطبخ. ويواصل صوالحة الأب، أداءه التهكمي الساخر، وفق هذا النوع من الكوميديا الذي تقيم له أمانة عمّان مهرجاناً سنوياً مميزاً، بالتعاون مع مهرجان الكوميديا العربية الأميركية في نيويورك. وشاعت موجةُ ضحك حين قال صوالحة إن الجراد، ومنذ تشكيل حكومة سمير الرفاعي، لم يعد يأتي إلى الأردن نهائياً، إذ إنه «لن يجد شيئاً ليأكله»، في إشارة إلى شبهات الفساد في «بلع» أموال الدولة، والسياسات الاقتصادية التي تنتهجها الحكومة. عاينَ العرضُ الشخصية العربية عموماً، منذ نشأتها في رحم الأم، مروراً بطفولتها، وانتهاء في «نضوجها»، وفق أسلوب التحليل النفسي والاجتماعي، اللذين أظهرا الخراب الكبير الوالغ في المجتمع، بسبب غياب الحياة الإنسانية المدنية، وحلول سلطة العقليات الأمنية، التي فعلت فعلَها عبر عقود على روح هذه الشخصية، لتصبح مع الزمن «شخصية متعَبة منهَكة، لا تشارك في الفعل السياسي والاجتماعي الحر». ونال البرلمانُ الأردني نصيباً وافراً من النقد الساخر، خصوصاً حين دعا صوالحة جمهورَه إلى التأمل في مفارقة أن النواب «سلخوا» الحكومة مئة خطاب لاذع، لكنهم في النهاية أعطوها الثقة!. البنى المضمرة لنص العرض، استنطقت بنقدها اللاذع أنماطاً اجتماعية ما زالت المجتمعات العربية أسرى لها، كالعادات والتقاليد المتبعة في الأفراح والأتراح، والسلوكات التي تشيع خلال التعامل الاجتماعي العام، وتلك التي تؤسس لفوارق طبقية وسياسية حادة؛ مثل أن رئيس الوزراء يورّث منصبه لأبنائه وأحفاده. رئيس الحكومة الحالي هو سليل لعائلة متخصصة في «منصب رئاسة الوزراء» مثلاً. وتناول صوالحة الديمقراطية المحلية بجرأة عالية، ولكن دون تجريح، وهو استنطاق يدين الفساد دون هوادة، سواء نتج من تواكل المواطن أو تواطؤ المسؤول. الخبرة الكبيرة التي تمتّع بها الفنان صوالحة، وحيوية أداء ابنته لارا، عمّقا التواصل الناجح بين العرض وجمهوره، وتجسّد ذلك في الثراء التعبيري لدى أداء المواقف العاطفية والحوارية، فغدا العرض حميماً وقريباً من المتلقين، خصوصاً أن الثنائي صوالحة أديا أدوار الشخصيات التي تناولها العرض. على هامش العرض قال صوالحة الأب ل «الحياة» : «حاولنا أن نبحث في همومنا التي تأتي في غالبيتها من ذوي العقول الصغيرة، والدكتاتوريات الضيقة والاحتلالات القذرة». وأضاف: «رغم ذلك تجمعنا ابتسامة رائعة ساحرة، توحد فكرنا، وترفع معنوياتنا، لنكون على قدر المواجهة، بأننا كشعب عربي ما زلنا أحياء معافين، ولكن نطمح للأحسن، ولا نقبل الظلم وقتل العقول». وحول تطرق العرض للنواب الأردنيين بشكل واسع، قال صوالحة: «بات واضحاً أن النواب لا يتناسب أداؤهم مع حجم وعودهم، ولهذا فإنهم يخذلون ناخبيهم». وعن استبداله تعبير «يوم القنوة» (عصا يستخدمها رجال الأمن) بتعبير «يوم الحب»، فذلك للتعبير عن «سخافة الصراعات وأحداث العنف المجتمعي في الأردن، كونها تغيّب الاتصال بين الناس». وهو يرى أن مرتكزات المجتمع العربي ومنطلقاته، «قائمة على التقليدية والخوف من تحدّيها»، مؤكداً: «لا إبداع مع الخوف.. نحن مجتمع مرتعب وأبوي وتسلطي». ويستعيد صوالحة مقولة للكوميدي كراتشو ماركس، في سياق حديثه عن فوائد الضحك: «الضحكة تعمل كحبة الأسبرين، لكنها أسرع بمرتين». ويأسف صوالحة لأن السلطة في العالم العربي «تخاف من الإبداع والمبدعين»، مؤكداً أن المبدع لا يعترف بسلطة سوى سلطة العقل. ومن هذا المنطلق كان اشتغال صوالحة في رحلته الفنية، في «التحدي والتجديد المستمرَّين، دون الخوف من الجوع، أو تأثير أي سلطة».