عندما يتجرأ أحد الكتّاب على فتح الأبواب المغلقة، ودخول المناطق المسكوت عنها، وزحزحة جبال المسلمات، تتعالى الأصوات من هنا وهناك: «وماذا عن البطالة؟»، «يا أخي اكتب عن شيء ينفع الناس... كالبطالة مثلاً»، «أليس عندكم يا معشر «بني علمان» موضوع آخر؟ لماذا لا تتحدثون عن البطالة بين الشباب؟». لا أعرف لماذا يتواطأ هؤلاء على استدعاء البطالة في كل مرة تصطدم رؤوسهم بفكرة متحررة من الأغلال؟ ماذا عن غلاء الأسعار، والفقر المدقع والمطلق، والفساد الإداري والمالي، والتعصب الكروي، والعنوسة بين الفتيات، والقبلية الجاهلة، والمناطقية المنتنة، والواسطة المستفحلة، وغيرها من القضايا العالقة من دون حل؟! لماذا البطالة تحديداً؟! تخيل، تخيل فقط، لو أن كل كاتب، بعلم أو بلا علم، رمى بدلوه في بئر البطالة، فإلى أي حد سيكون حال صحافتنا مدعاة للشفقة والأسى! أولئك الذين يمتشقون سيف البطالة من غمد ذاكرتهم كلما سمعوا صوتاً مختلفاً يقلق سكونهم، وكلما قرأوا فكراً مغايراً يبعثر مسلماتهم، هم أناس عاديون لكن جرى تدجينهم فكرياً، ومن ثم تحويلهم إلى ما يشبه حبات الرز في تجانسها. عندما يكتب فلان عن حقوق المرأة المهدرة، يأتيه من يقول: اكتب عن البطالة. وعندما يكتب فلان عن عصرنة التعليم وتحريره من قبضة التشدد، يأتيه من يقول: اكتب عن البطالة. وعندما يكتب فلان عن وطن متعالٍ على سخائم الطائفية ورزايا القبلية، يأتيه من يقول: اكتب عن البطالة. المطالبة بالكتابة عن البطالة هي البديل اللغوي لكلمة: لا تتفلسف!، وقيل قديماً: من تفلسف فقد تزندق! أليس كذلك؟!التلويح بورقة البطالة لا يعني أنهم مهمومون بها، ولا هم قلقون من تنامي معدلاتها ومن تمادي مخاطرها. إنهم لا يذكرون البطالة عندما تتكالب أقلام على «شرشحة» مؤسسة الخطوط السعودية، ولا يذكرون البطالة عندما تجتمع الأقلام على دق أجراس الخطر من تنامي مخاطر الفساد، ولا يذكرونها عندما تسخر أقلام من أداء مجلس الشورى الباعث على الإحباط. لا يطلق شبح البطالة هذا إلا إذا لمع في الظلام شهاب فكرة تنويرية سرعان ما تسقط كحجر في ماء الفكر الآسن! دعوة بعض الكتّاب من بعض القراء إلى الانشغال بالكتابة عن هموم البطالة بدلاً من «إهدار» الجهد والوقت في الحديث عن قضايا «تافهة» كالمرأة، وحقوق الإنسان، وحرية التفكير والاجتهاد، وتطوير التعليم، والتطرف الديني، وغيرها من القضايا «المشبوهة» غدا أمراً مألوفاً. كأننا أمام نوع من «وصاية» يمارسها بعض القراء على كتّاب الصحف. أو لنقل، إننا بصدد نوع مخفف من «الاحتساب الديني» وإن توارى خلف حجاب البطالة الاقتصادية! معظم الظن أن من يطالب الكاتب بالالتفات إلى البطالة هو شخص غير متدين بطبعه لكنه أحادي النظر وتقليدي الفكر. لقد سبق للكاتب «عبدالله بن بخيت» في إحدى مقالاته بصحيفة «الرياض» أن وصف مثل هذا النمط من الناس ب «اللحية الداخلية»، بمعنى أنه غير متدين، ولكنه سرعان ما يتماهى مع فكر وسلوك المتدين إذا ما فتح النقاش حول مسألة غير مألوفة عليه، مثل قيادة المرأة السيارة، أو فتح دور للسينما. الحديث عن مواضيع غير مطروقة كهذه التي كانت في الأمس من المحرمات لا ريب أنه سيربك مسلماته ويقلق قناعاته. وبما أنه لا يملك من التأهيل الديني ما يكفي لمقارعة الحجة بالحجة، فتراه يطالب الكاتب بالتوقف عن طرح تلك الأفكار الصادمة من خلال مطالبته بالانشغال بأشياء أخرى، كالبطالة مثلاً. يذكرني الحديث عن البطالة بالحديث عن فلسطين. لقد وجدت حكومات ما بعد الاستعمار في قضية فلسطين مبرراً لتأجيل الاستحقاقات الديموقراطية، وكبح الحريات، وعسكرة المجتمعات، وتعطيل المشاريع الوطنية بدعوى أن لا صوت يعلو على صوت القضية! وحتى تتمكن تلك الحكومات من إحكام قبضتها على البلاد والعباد، فقد نكلت بكل من يطالب بالإصلاح والحريات والعدالة. بدورها، الدعوة للكتابة عن البطالة تشبه القضية الفلسطينية. إن الذين يثيرون غبار البطالة كلما سمعوا أو قرأوا فكراً صادماً هم غير مهتمين بالبطالة ولا هم يحزنون. إنهم فقط مصابون بحساسية مفرطة كلما كان هناك حديث عن الديمقراطية، أو الحريات، أو المساواة، أو المرأة. وكما تتهم الحكومات المطالبين بالإصلاح والحريات بالعمالة للغرب وشق الوحدة، فإن أنصار البطالة يصمون من ينثر الملح على الجرح من الكتّاب بزوّار السفارات وأذناب الغرب! [email protected]