يثير النشر الإلكتروني مخاوف عدد من المبدعين من الأجيال السابقة، والخسائر العاطفية التي تترتب على التعامل مع الصفحات الإلكترونية باعتبارها وسيلة جديدة للكتابة والنشر، على خلاف ما عهدوه في حياتهم، حيث كان القلم والورق والكتاب هي وسائل المعرفة والإبداع التي يتعاملون معها. مع نهايات التسعينيات من القرن الماضي، وظهور صفحات النشر الإلكتروني على الإنترنت، تغير كل شيء تقريبا، أضحت الكتابة أكثر سهولة والنشر أوسع انتشارا، لكن هل تقبل هذه الوسائل الحديثة مبدعو وكتاب ما قبل الإنترنت؟ كيف استقبلوه، وكيف تعاملوا معه؟ ما الذي خسروه؟ وما الذي كسبوه؟ الشاعر البحريني قاسم حداد يروي ل"الوطن" ما إذا كان قد خسر الحس العاطفي الذي يوفره التعامل مع القلم والورقة بعد أن توقف كليا عن استخدام القلم والورق في الكتابة، قائلا: منذ أن تعرفت على أدوات الكتابة الإلكترونية لم أعد أستخدم الأدوات التقليدية، الورق والأقلام ليست سوى أدوات، يمكن تغييرها إذا كان ذلك مفيدا، وقد كنت أول من اهتم بهذه القضية، وفي طليعة الشعراء الذين وضعوا إنتاجهم على صفحات الإنترنت، والكتابة على صفحة إلكترونية تتشابه مع الكتابة على ورقة بيضاء، لكن على الكاتب أن يعود نفسه على ذلك، فأنا أكتب نصوصي مباشرة على الصفحة الإلكترونية. يبدو حسب حداد أن المسألة تتعلق بسيكولوجية الكتابة نفسها وليست بالوسائل، فالتكيف مع حداثة النشر يراه الشاعر أمرا طبيعيا وضروريا. وهذا ما يتفق معه فيه القاص فهد الخليوي الذي يقول إنه واجه في البداية صعوبة في التعامل مع الإنترنت غير أنه تغلب عليها بمساعدة أحد أبنائه، ويوضح: استقبلت هذه الوسيلة الحديثة بكل ابتهاج ولا أخفي عليك شعوري بالحسرة، كون هذه التقنية المدهشة لم تكن موجودة في زمن جيلي الذي كان محاصرا بالمتسيدين على وسائل النشر من أرباب الفكر الأحادي، لقد شعرت وأنا أدخل لأول مرة إلى فضاء النت أنني طائر طليق يغرد فوق أشجار يانعة ارتوت بماء الحرية والحياة. ويؤكد الخليوي أن تراجع وسائل النشر التقليدية، وأن عالم الإنترنت أخرجه من عزلته الطويلة وبناء صداقات جديدة على المستوى العربي، وهذا أدى إلى ترجمة مجموعته القصصية الأولى إلى الفرنسية. وهجر الخليوي الأقلام والورق كما يقول منذ أن تعرف على التقنيات الحديثة. بينما لا يزال محمد الغامدي شاعر وكاتب يحن بين الحين والآخر إلى الأقلام والورق، ويأخذ على الإنترنت على الرغم من أهميته، استسهال عملية النشر، فقد أصبح فضاء مفتوحا لمن ليس لهم صلة بالقراءة والكتابة، ويضيف الغامدي: معاناة قد يواجهها جيلي الذي أرى أنه تعب وشقي وهو يطارد أمهات الكتب، ويتابع آخر ما أنتجته المطابع، حتى لو كان عن طريق تصوير نسخ للكتاب، كي يقرأه أكبر عدد ممن يحملون هم القراءة. إن استسهال عملية النشر فيها خطورة، فكونك تتحدث في مجلس سمر مع من يعرف تفكيرك ويعاشرك كصديق أو قريب غير كونك تتحدث للآلاف ممن يستقبلونك على النت، فهناك فروقات فكرية كبيرة. أدى هذا حسب الغامدي إلى الشعور بالاستهانة في الكتابة دون أن نفكر في النقد الذي كان يترصد ما تكتبه، فالنقد ذاته اتجه إلى الذاتية، وأدى الإنترنت إلى رفع منسوب حرية الكتابة دون رقيب أو محاسبة، مما يعني أن الكاتب يستطيع أن يكتب أي شيء بلا مسؤولية على عكس ما كنا عليه سابقا. مع ذلك يعتبر الغامدي أن في هذه الحداثة ما هو سلبي وما هو إيجابي، لكن يجب أن لا ننسى أن حياتنا تحولت لحياة رقمية، لذلك يراودني بين الحين والآخر حنين إلى الورق، وأشعر بالنشوة وأنا أكتب عليها لا أجدها على شاشة الكمبيوتر، فبينك وبين الورقة قلم وثمة تواصل حسي بينك وبين الكلمات تفتقده على الإنترنت. ويفضل الشاعر عبدالعزيز الشريف الحديث عن إيجابيات الإنترنت ويصف التعامل معه بأنه تجربة رائعة، قائلا: واجهت في البداية قلقا من هذا المعطى الحضاري الجديد، فنحن ننتمي إلى جيل الكتابة على الورق، جيل ترسخت لديه عادة حمل الأقلام والأوراق والأحبار حتى أصبح تلطخ الأكمام والأنامل بالحبر دلالة على القراءة والكتابة والثقافة، لكن وجود أبناء في أعمار مناسبة دفعني إلى اقتحام عالمهم الجديد دون خوف، وأن هناك شيئا جديدا مختلفا سيكسر رتابة المألوف ويقودنا إلى فضاءات جديدة مدهشة، ويمكنني أن أصف هذه التجربة بأنها تجربة رائعة، لا خطوط حمراء ولا حدود ولا خوف ولا رهبة من رقابة، ومنحني الفضاء الإلكتروني صداقات جديدة وتعرفت على عالم يضج بالحركة والحيوية فأنت تشعر بأن العالم كله معك ويراك، لهذا فإن الكاتب الجديد الذي يكتب على صفحات النت تجاوز تعقيدات الكتابة الكلاسيكية التي صارت جزءا من الماضي، إلى جانب كم المعرفة التي نحصل عليها وسقف الحرية المرتفع، هناك أيضا القدرة التي وفرتها التقنيات الحديثة في أن تكتب متى شئت ولا تبحث عن قلم وورقة، فهذه الوسائل التقليدية لم تعد مقنعة.