«أنا واثق بعد خروجي أن البلاد ستعيش بسعادة وهدوء كما كانت، ولا أريد أن يكذب علينا أحد ما عبر وعود بحياة رغد، روسيا دولة غنية وناجحة، ولكن يوجد دائماً ما نسعى إليه». هذه هي مقدمة «رسالة وداع» القومي الشعبوي الروسي فلاديمير جيرينوفسكي للشعب الروسي بعد خسارته للمرة السابعة في الانتخابات الرئاسية في 18 آذار (مارس) الجاري. رسالة لم تكن لتثير أي ضجة لولا التوقيت الذي اختاره لكشفها، فهي لسياسي يبلغ من العمر 72 عاماً، وسجَل أسوأ أداء له منذ عام 1991، وحصل على ثقة أقل من 6 في المئة من الناخبين الروس، وتراجعت مواقعه في مقاطعات الشرق الأقصى وجمهورياته، ومناطق أخرى كانت تعطيه المركز الثاني بعد الرئيس فلاديمير بوتين، وتفوّق فيها في تسعينات القرن الماضي على الرئيس الراحل بوريس يلتسن. عناصر إثارة كثيرة حوَتها الرسالة التي حضّرها جيرينوفسكي، وينوي تلاوتها مطلع أيار (مايو) 2030، وفيها يؤكد جيرينوفسكي (الذي سيكون في الرابعة والثمانين من عمره) قيم الديموقراطية، ويقول: «سأغادر من دون أن أترك خليفة لي، لأن الوقت حان للديموقراطية المباشرة». جيرينوفسكي عرض في الواقع منذ أيام حلاً مناسباً لحكم روسيا بعد عام 2024 لا يتضمن تعديلات دستورية تضمن لبوتين البقاء في الحكم بعد انتهاء ولايته الرابعة، ويدعو إلى حكم روسيا بمجلس رئاسي يكون هو وبوتين وغيرهم في عداده. وبالعودة إلى الخيال، يواصل جيرينوفسكي رسالته الافتراضية: «حكومة روسيا تتشكل أيضاً بمشاركة مجلس الدولة واختيار المواطنين الروس عبر الإنترنت الشخصيات الأفضل. لم نعد في حاجة إلى لجان انتخابية ومراقبين، وبطاقات انتخابية، واستطعنا اقتصاد البلايين. وهذه هي الديموقراطية المباشرة التي تطبق في روسيا وحدها». وتحدد الرسالة مبادئ أخرى للديموقراطية، من وجهة نظر زعيم الحزب الليبرالي الديموقراطي الروسي منذ تأسيسه، ويقول فيها: «نحن سعداء لأننا عشنا إلى اليوم الذي لا يوجد فيه برلمان، ولا أحزاب سياسية، ولا موظفون حكوميون كبار يمكن أن يؤثروا في تطور البلاد. المواطنون من بيوتهم يقترحون القوانين التي يرغبون بها، وينظمون تصويتاً عليها عبر الإنترنت». الإشاعات حول عزم جيرينوفسكي التنحي، أزعجت السياسي المشاكس، ولم يرُق له التزام الظل بعدما اعتاد الروس على حركاته وتصرفاته أمام الكاميرات. دخل مختالاً إلى الدائرة الانتخابية، وبعدها أعلن أنها «ستكون الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الحياة السياسية»، وهو كلام فسره صحافيون بأن اليميني المتطرف سيعتزل السياسة، غير أن «المعارض المدجن» أكد أنه «لم يعلن إطلاقاً أنه لن يشارك في الانتخابات». في اليوم الأخير من الانتخابات، قال القومي المتعصب إنها «ليست انتخابات روسية وحسب، فالروس يختارون رئيساً للعالم». وفي رسالة الوداع، يرسم السياسي حدود العالم الروسي، مع تأكيده أنه «يجب ألا نقسم البلد بناء على العامل القومي»، شدد على وجوب أخذ العلم بما ينص عليه الدستور من أن «الروس يعَدون الشعبَ المؤسس للدولة على كامل مساحة وطننا العظيم، من مورمانسك إلى باكو (عاصمة أذربيجان)، ومن سان بطرسبورغ إلى دوشنبيه (عاصمة طاجيكستان)، ومن أوديسا (جنوبأوكرانيا) إلى كامشاتكا». ويختتم «قائد الليبراليين الديموقراطيين الروس» رسالته بدعوة المواطنين إلى عدم التأثر، ويحضهم على عدم البكاء: «أرى أن كثيراً منكم يبكي، والحزن في نفسه... لا تحزنوا، احضنوا بعضكم الآخر، تبادلوا القبلات، أطلقوا بالونات زرقاء في السماء، اشتروا الآيس كريم، ولتُعزف الموسيقى في كل الساحات والشوارع». خطاب الكرملين والتعبئة القومية حَرمت القائد «الملهم» فئات واسعة كانت تناصره، لكنه بقي الأكثر إقناعاً بين المرشحين السبعة الخاسرين في المناظرات التلفزيونية التي استخدم فيها عبارات نابية ضد بعضهم، وصرخ عالياً، وأدى حركات «بهلوانية». لكن الكرملين سيكون حزيناً، على عكس الوصية، لفقدان جيرينوفسكي، فهو خسارة لا تُعوّض لقائد طالما عزف «ألحان» السلطات على اختلافها، وساندها في المواقف المفصلية، وكان «معارضاً» لا غنى عنه في مشهد الديموقراطية الروسية الفريد من نوعه.