تعاني بريطانيا، ككثير غيرها من دول أوروبا الغربية، تراجعاً لافتاً في عدد الولادات بين السكان الأصليين (خصوصاً البيض). وصحيح أن عدد سكانها ما زال في ازدياد مضطرد (تجاوز 60 مليوناً)، إلا أن الاعتقاد السائد هو أن نسبة كبيرة من هذه الزيادة مرتبطة على الأرجح بارتفاع نسبة المواليد الجدد في العائلات من الأقليات العرقية وأيضاً في صفوف العائلات التي تتجنس بالجنسية البريطانية. وفي مثل هذا الوضع، تجد بريطانيا نفسها في وضع لا تُحسد عليه، إذ بات عدد المتقاعدين والمتقاعدات منذ العام 2007 يفوق عدد الشبان. والاهتمام بمثل هذا «الجيش» من المتقاعدين يحتل حيّزاً مهماً من مشاغل الحكومة البريطانية التي تتولى من خلال المجالس البلدية المنتخبة محلياً مهمة رعاية هؤلاء وإيجاد وسائل للتكفّل بحاجاتهم والترويح عنهم. وتساعد الحكومة في مهمتها هذه مئات الجمعيات الخيرية - وأكثرها شهرة «إيج كونسيرن» (الرعاية بالمسنين) - التي تُعنى بجوانب مختلفة من شؤون الرعاية بالمتقاعدين. وغالباً ما يكون ذلك من خلال تنظيم رحلات جماعية للمتقاعدين، أو جمعهم في نواد وصالات للعب الورق أو «البينغو»، وأحياناً الرقص والسباحة. وفيما تتحمل الحكومة تكاليف معظم هذه النشاطات المادية، تتطلب نشاطات أخرى مساهمات رمزية من المستفيدين منها. وبعض الجمعيات الخيرية لا تطلب مقابلاً البتة، كون عملها نتيجة تبرعات من محسنين ومساهمات طوعية من أفراد المجتمع. ودور هذه الجمعيات يبدو مرجحاً كي يأخذ حيّزاً أكبر الآن في ظل اضطرار الحكومة البريطانية إلى تقليص المخصصات التي تذهب إلى برامج الرعاية بالمسنين، في إطار سياسة خفض النفاقات بهدف التحكم بالمديونية العامة. ولا شك في أن كثيراً من النشاطات التي تقوم بها هذه الجمعيات يُعتبر بالغ الأهمية لمصلحة المتقاعدين والمتقاعدات، خصوصاً لأولئك الذين تقدموا في السن من بينهم. إيفلين جونز واحدة من هؤلاء. فهذه البريطانية المسنّة تبلغ حالياً الخامسة والثمانين من عمرها وهي تقطن منذ الحرب العالمية الثانية في شقة في ضاحية آكتون غرب لندن. توفي زوجها قبل نحو 15 سنة، ولم يعد لها من معيل سوى ابنها الذي يعيش في منطقة قريبة من والدته ويدأب على زيارتها باستمرار. لكن إيفلين تشعر بالوحدة. فهي تقضي معظم نهارها وليلها أمام شاشة التلفاز، وحيدة في شقتها ليس إلى جانبها كائن بشري تتبادل معه الحديث. صحيح أن ابنها يزورها بين الفينة والأخرى، لكنه لا يبقى طويلاً إلى جانبها. كما أن المجلس البلدي يُرسل إليها موظفة من قسم الرعاية الاجتماعية كي تطمئن عليها أسبوعياً، خشية أن يحصل لها مكروه من دون أن يدري احد بها. فمفهوم «الجيران» في بريطانيا لا يعني بالضرورة أنهم يمكن أن يسألوا عنك ويطمئنوا عليك، حتى ولو كان بابهم ملاصقاً لبابك. إذ ليست هناك «صبحيات» وزيارات متبادلة بين الجارات لارتشاف فنجان قهوة في منزل إحداهن، ولا وقوف على شرفة في انتظار ظهور جار أو جارة على الشرفة المقابلة لتبادل الأحاديث في ما بين جيران الحي الواحد. حال الضجر لدى السيدة جونز تزول، كما يبدو، يوماً واحداً على الأقل في الأسبوع. إنه يوم الإثنين. تنتظره بفارغ الصبر. فهو اليوم الوحيد في الأسبوع الذي تخرج فيه من منزلها كي تتحدث مع شخص آخر غير ابنها وغير موظفة الرعاية الاجتماعية في المجلس البلدي. في هذا اليوم يأتي باص صغير يقل متقاعدات مسنات مثلها لينقلهن إلى ناد اجتماعي في غرب لندن. يُقدّم هذا النادي الذي يعمل فيه في الغالب متطوعون بلا أجر مادي، نشاطات ترفيهية مختلفة لرواده، كما يقدم لهم أصنافاً مختلفة من الأطعمة التي لا تتوافر لمعظمهم في البيت، خصوصاً لأولئك الذين لم يعد في إمكانهم طهي طعامهم بمفردهم. تفرح إيفلين برحلتها الأسبوعية هذه. فهي على رغم بلوغها الخامسة والثمانين ما زالت في صحة جيّدة نسبياً، مقارنة بغيرها من المسنات اللواتي يُنقلن إلى النادي. بعضهن في حاجة إلى من يضع لقمة الطعام في فمها، وأخريات في حاجة إلى من ينقلهن إلى دورة المياه لقضاء حاجتهن. بعض الرجال في حاجة إلى من يساعدهم في حلاقة ذقنهم، وبعضهم يكرر السؤال ذاته بعد دقائق قليلة فقط من سماعه الإجابة عنه. إنه وضع مثير للشفقة بلا شك، لكنه مشكلة سيتعين على أي حكومة بريطانية أن تتصدى لها في المستقبل. فبريطانيا باتت رسمياً منذ عام 2007 «بلداً لأصحاب الشعر الشايب». وقد كشف المركز الوطني للإحصاءات أن عدد من هم فوق ال 65 سنة بلغ في السنة المذكورة 9.8 مليون شخص، وهو رقم يُتوقع أن يرتفع إلى 16 مليوناً بحلول العام 2032، أي ما يوازي واحداً من بين كل أربعة من البريطانيين.