كتاب الشاعر الألماني يوآخيم سارتوريوس: «الاسكندرية سراب» الذي صدر حديثاً بترجمة فارس يواكيم (شرق غرب للنشر - بغداد) ليس كبقية الكتب، فمؤلفه واحد ومتعدد في آن. واحد في موضوعه (الإسكندرية المكان- الزمان)، ومتعدد في ما يقدم من نصوص تصب على رؤية هذه المدينة بوجهيها: التاريخي والثقافي. وقد رأى فيها أكثر من كاتب، ممن ضم هذا الكتاب نصوصهم، «أسطورة أدبية»، كما وجد فيها غير مؤرخ مدينة يتمتع موقعها بعديد من المزايا التي جعلت منها «مدينة رائعة في نواح كثيرة جداً». وهذا ما جعل مؤلف الكتاب (بمعنى منسق مادته ومعدّها) فارس يواكيم اللبناني الأصل، والألماني المواطنة، يرى فيها، هو الآخر، «أسطورة أدبية» بالدرجة الأولى، وذلك من خلال متابعة تاريخها على امتداد ثلاثة قرون قبل الميلاد، منذ تأسيسها، الى اليوم، محيلاً بذلك الى تواريخ مؤرخين، وشهادات أدباء وشعراء آخرهم قسطنطين كفافي الذي ولد فيها، ونسب إليها، على رغم يونانيته، لتجيء قصائده، في نظر المؤلف، دليلاً على ما لهذه المدينة من إبداع فريد، رائع وعميق الجذور في الزمان. وقد كانت «معادلة لأثينا، ثم متفوقة عليها» (ص25) وهو يستند في ما يقوله الى كتابات شعرية ونثرية وتاريخية، أجمعت على كونها «مدينة كوزموبوليتية» كان فورستر قد وجد الرؤى تسكنه وهو يتجول بين شوارعها والبحر في عشرينات القرن الماضي. فهذه «المدينة - كما يقول المؤلف - الموغلة في القدم عاشت مجداً وشهرة، وتلقت صدمات لا تحصى وعانت من أمر الأوقات»، لعلها المدينة «الوحيدة بين مدن عالمنا كافة التي كانت عاصمة كما كانت قرية». (ص26) يقع الكتاب في ثلاثة أقسام: في القسم الأول منه شهادات عن عصر الإزدهار الثاني الكبير للاسكندرية، من فلوبير الى كفافي، ومن أندريه جيد الى أسيمان. ويقدم في القسم الثاني منه ما يجد فيه نموذجاً لحيوية هذه الأسطورة وتألقها، الأسطورة التي ظلت الى يومنا هذا مدخلاً نفيساً لخيالنا ولملكة التصور لدينا»، على حدّ تعبيره. فإذا ما تتبع مسارها التاريخي في القسم الثالث حرص على إضاءة هذا التاريخ بما كان للمدينة منه في الماضي، ومن الماضي، «استناداً الى شعراء المكتبة العظمى، وخلاصات الروايات، والرسائل الخاصة، وتقارير الرحالة الكبار» ونصوصهم، بمن فيهم إبن جبير العربي، مقدماً من هذا كله «عالماً مستعاداً»، ولكنه عالم مستعاد بناؤه شعرياً. ويرى المؤلف، أن «ماضي الإسكندرية بوسعه ان يكون مستقبلها أيضاً، فهي وحدها المدينة التي «تطلعنا على وجه آخر من وجوه عالمنا»، وهو «وجه أمسى مدينة مثالية». (ص34) والكتاب متعدد بما اجتمع له من رؤى انتظمت في السياق ذاته، وكل منها يرى في هذه المدينة ما يحب أن يريه للآخرين في مشاهدها التي كان لها كبير الأثر في توليد رؤيته، وفي إعادة بناء المشهد، كما يراه، من خلالها. ومع أن بعض النصوص شعرية والأخرى نثرية أو تاريخية، فإن السياق الشعري هو الذي انتظمت فيه كلها.. فالجميع يراها من خلال خصوصية موقفه، علاقته الناشئة بها، ومعها، بل كل يعانق أفقه الخاص فيها بلغته، وتحت تأثير إيقاع الحياة، كما يتواصل معه، فيها. فمرة نجد روحاً تتوحد «مع شجرة صمغ ضخمة في حديقة، ذات أوراق دامعة تزرع الذكريات الخضراء مجدداً في الأرض خوفاً من إيقاظ ذكريات جديدة متصاعدة.» (مارينيتي- ص41)، ومرة يختار غوزيبي أونغاريتي عنواناً لكتابه الشعري الأول «المرفأ الدفين» من وحيها، وهي المدينة التي يجدها «مرفأ، وانها كانت، حتى قبل الإسكندرية، مدينة»، لكنها «مدينة تستهلك نفسها وتفني ذاتها من لحظة الى لحظة.» (ص66) وهي «المدينة» التي دعا كفافي سواه الى أن يكون «مستعداً، كرجل، مثلما يجب ان تكون، حتى تصبح جديراً بمثل تلك المدينة». (ص73) أو كما هي في تمثلات القاص والروائي إدوار الخراط: «مياه كثيرة لا تغرق عشقي، والسيول لا تغمره. صخرة ناعمة الحنايا أنت في قلب الطوفان، سفوحها ناعمة غضة بالزروع اليانعة، بالسوس والبيلسان، ترابها زعفران، خضب وحي، ترفّ عليها حمامة سوداء جناحاها مبسوطان حتى النهاية، لا تكفّ رفرفتها في قلبي». (ص142) وإذا كانت هذه المدينة، في مستوى الإلهام الشعري والأدبي، قد حققت تراثها الخاص بها، فإنها من جانب تاريخي كان لها الدور الواضح والمؤكد في معرفة العالم تراثه الأدبي الخاص بهذا العالم، إذ «تعرّفت اليونان لأول مرة على تراثها الأدبي في دار الحكمة في الإسكندرية»- بحسب الإشارة التأكيدية من إ.م. فورستر الذي يذهب أيضاً الى أن «الأعمال التي كتبت في الماضي لم تحفظ فقط، وإنما تمّ تدوينها وتلخصيها، والتعليق عليها أيضاً». (ص239). والمدينة من جانب تاريخي أيضاً، يعود بناؤها - كما يقول ديودروس الصقلي الذي كتب تاريخ العالم منذ عصور ما قبل التاريخ - الى القرن الأول قبل الميلاد، على يد الإسكندر الذي أمر بتعمير «المدينة بين البرّ والبحيرة» و «سمى المدينة على إسمه»، مشيراً الى أن موقعها تمتّع «بالمزايا لوجوده قرب ميناء فاروس. أما اتجاهات الشوارع فحددّها هو وفق هدف معين يتيح لريح الشمال الصيفية أن تلعب في المدينة، وبهذا وفرّ للسكان هواءً معتدلاً وصحياً (...) أما سور المدينة الدائري فأعطاه امتداداً فوق العادة، يجعل المدينة محمية». و «للمدينة شكل معطف واقٍ. وهي منقسمة الى قسمين بفضل شارع كبير ينطلق في خط مستقيم (...) وعلى امتداده، ومن دون انقطاع، بيوت ومعابد مجملة وفق أفخم فنون العمارة (...) وفي الأزمنة اللاحقة ارتفع مستوى المدينة حتى اعتبرها البعض المدينة الأولى في العالم». (ص261) أما ديون كريزوستوموس، الخطيب اليوناني الشهير الملقب بفم الذهب لبلاغته، فيقول لأهالي الإسكندرية في القرن الأول الميلادي إن مدينتهم متميزة بعظمتها وموقعها، فهي «تقع في إحدى نقاط الربط بين سائر الكرة الأرضية وأكثر الشعوب تباعداً»، ويجد في كثير مما يحفّ بأهلها «مكونات لقصيدة مدح تنشد في اجتماع احتفالي». (ص281). لعل الكتاب يستجيب لنداء كفافي، شاعرها الأثير، الذي يقول: «حافظي عليها، يا ذكريات، كما كانت».