أثناء تفقد مراكز الاقتراع من قبل أعضاء بعثة المراقبة التابعة للاتحاد الأوروبي، فوجئت الفتاة الفرنسية جنفياف، بوجود العماد ميشال عون في أحد الأقلام. ولما سألته عما إذا كان يشكو من مخالفات معينة، أجابها بأن استخدام الحبر الأزرق للتعرف الى المقترعين، يثبت انحياز وزارة الداخلية لكتلة "المستقبل" التي تستعمل "الأزرق" شعاراً لها. وأجابته المراقبة بسذاجة: إن الحبر المستخدم يتمتع بمعايير أوروبية عالية الجودة يستحيل محوها أو ازالتها قبل مرور 24 ساعة. ورد عليها عون بغضب مؤكداً أن اعتراضه ليس على جودة الحبر، وانما على انتقاء هذا اللون بالذات، بدلاً من انتقاء اللون البرتقالي أو الأسود. وقاد هذا الجدل الساخن العماد عون الى رفع لهجة التهديد ضد جماعة 14 آذار، التي اتهمها بتوظيف أموال البترو - دولار لرشوة المنتخبين. ونبهته المراقبة الفرنسية الى أن شكاوى "تيار المستقبل" و "القوات اللبنانية" و "اللقاء الديموقراطي"، منصبة على البترو - دولار الايراني ايضاً. وكانت بهذا التنبيه تريد أن تؤكد له أن الأكثرية والأقلية غارقتان في مستنقع القبض والدفع... وأن تكاليف عمليات نقل المغتربين من أوروبا والولاياتالمتحدة والبرازيل وكندا وأفريقيا واوستراليا وأميركا اللاتينية، خضعت لحسابات سرية يصعب رصدها. لذلك هنأ الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر الرئيس اللبناني والحكومة ووزير الداخلية، على ما أظهروه من التزام قوي بالعملية الديموقراطية، خصوصاً أن نسبة الاقتراع المرتفعة جداً كانت بمثابة معيار دقيق لحدة المنافسة السلمية. قبل موعد الانتخابات بشهر تقريباً، أعلن أمين عام "حزب الله" السيد حسن نصرالله في احتفال أقيم في النبطية، أن هدف المعارضة من الفوز بالغالبية هو إقامة الدولة القوية والعادلة والقادرة. ثم ردد هذا الكلام في مناسبة تخرج الجامعيين، مؤكداً أن الحزب معني ببناء وطن لجميع أبنائه، متساوين في الحقوق والواجبات، وأن الدولة والمقاومة يمكن أن تتعايشا بشكل طبيعي. وفسر هذا الكلام في حينه بأنه الجواب الفاصل على المشككين بأن انتصار "حزب الله" وحلفائه سيقوض دعائم النظام القائم ويؤسس لنظام آخر تابع لإيران. وهذا ما دفع السيد نصرالله الى تأكيد هوية الحزب الوطنية وقبوله المشاركة مع العائلات الروحية الأخرى، لأنها في نظره، تمثل النعمة والرحمة لتعددية لبنان الحضارية. عقب انتهاء العملية الانتخابية وفوز قوى 14 آذار بغالبية 71 صوتاً من أصل 128، أطل السيد حسن نصرالله عبر شاشة قناة "المنار"، ليعلن قبول "حزب الله" بالنتائج المعلنة. ومع أن تقويمه لمجريات العملية لم يخل من اتهامات التحريض المذهبي والانفاق المالي والتدخل الخارجي، إلا أنه قبل النتائج بروح رياضية. وكان من الطبيعي أن يثير الهدوء الذي قوبلت به نتائج العملية الانتخابية، حفيظة الإعلاميين القريبين من "حزب الله" الذين اجتهدوا في ايجاد المبررات المنطقية. وقال بعضهم إن الحزب ركّز اهتمامه على نجاح تيار العماد ميشال عون، الأمر الذي دفع السيد نصرالله الى امتداحه علناً، متهماً خصومه بخداع الشارع المسيحي. واعتبر أن تحالفه مع عون هو تحالف استراتيجي يصلح لبناء شراكة وطنية مع زعيم مخلص للمسيحيين. وقد ترجم هذا النداء عملياً في جبيل وبعبدا وجزين حيث قضت الضرورات العددية بإضعاف كتلة نبيه بري من أجل دعم شعبية عون. وبسبب هذه التدخلات حافظ رئيس "كتلة التغيير والاصلاح" على أكبر تجمع مسيحي، الأمر الذي شجعه على طلب تمثيل نصف عدد المسيحيين في الحكومة الجديدة. بين المعلومات التي سربتها الصحف الفرنسية ما يشير الى حرص سورية على الوقوف على الحياد، في حين كان باستطاعتها التدخل أو العرقلة في طرابلس والبقاع والمناطق الحدودية، وأكبر شاهد على ذلك ان حليفها الرئيس السابق عمر كرامي سقط في المعركة الانتخابية، بينما نال الوزير محمد الصفدي غالبية أصوات الجالية العلوية التي تتأثر بدمشق. وينسحب هذا التساؤل على كتلة ايلي سكاف في زحلة، وعلى سقوط صديقي سورية في البقاع الغربي عبدالرحيم مراد وايلي الفرزلي. وقد فسرت الدكتورة بثينة شعبان هذا الموقف بالقول: "ان الانتخابات اللبنانية شأن داخلي لا يجوز تعطيلها، خصوصاً ان دمشق تشجع نشر الروح التصالحية والتوافقية". يقول الديبلوماسيون في السعودية وسورية ان اتفاق الدولتين على المستوى الاقليمي، انعكس بشكل ايجابي على الساحة اللبنانية المتأثرة دائماً بمناخ المصالحات والعداوات العربية. ويبدو ان الدولتين اتفقتا على تسهيل مهمة الرئيس أوباما لعله ينجح في تغيير سياسة بلاده الخارجية تجاه نزاعات الشرق الأوسط. ومن المؤكد ان أجواء التهدئة التي تشهدها العلاقات السورية - السعودية - المصرية - الأردنية، هي جزء من الواقع السياسي المطلوب لإرباك الحكومة الاسرائيلية. دعاة الدفاع عن مواقف "حزب الله" يؤكدون ان بقاءه في أجواء المعارضة كان قراراً خاصاً يتعلق بدوره العسكري والسياسي في مرحلة بالغة الخطورة، خصوصاً ان مسؤوليات الحكم يترتب عليها التقيد بالقوانين المرعية والالتزام بتقوية مشروع الدولة على حساب اضعاف مشروع الثورة. وللخروج من ازدواجية هذا التناقض ستضطر قيادة "حزب الله" الى التكيف مع أنظمة المؤسسات الشرعية الدولية بحيث تسقط عنها التصنيف "الارهابي". وتحاشياً لكل هذه الاشكالات فضل الحزب ان يبقى في المعارضة ويستفيد من "الثلث المعطل" ضمن حكومة وحدة وطنية تضمن له شروطه كاملة. بين الاسباب الأخرى التي يطرحها المحللون لتبرير قرار عدم الحصول على الأكثرية النيابية من قبل "حزب الله" سبب يتعلق بتعطيل خطة نتانياهو لافتعال حرب في المنطقة. ففي مرحلة الاستعداد لتنظيم الانتخابات اللبنانية، زار الرئيس الاميركي باراك أوباما الرياض والقاهرة ليعلن عن تصميمه على قيام دولتين، مخالفاً بذلك كل الاعتراضات الاسرائيلية. ورأت حكومة نتانياهو ان المخرج لا يكون إلا بشن حرب وقائية تعرقل المشروع الأميركي وتؤجل تحقيقه. واستبعدت الضربة ضد ايران لأن واشنطن لا تؤيدها. ووقع اختيار اللجنة الأمنية على لبنان كهدف مثالي يمكن تسديد ضربة موجعة له إذا فاز "حزب الله" بأكثرية تؤهله لتسلم الحكم. وقالت صحيفة "هآرتس" نقلاً عن مسؤولين في جهاز الأمن، انه في حال حصل "حزب الله" على الغالبية البرلمانية، فإن اسرائيل ستعتبر اي استفزاز من جانبه موقفاً ينفذه لبنان الرسمي، وكتبت جريدة "يديعوت احرونوت" افتتاحية قالت فيها حرفياً: "رغم التخوف من فوز حزب الله، إلا أن انتصار هذا الحزب سيرفع كل القيود المفروضة سابقاً على اسرائيل، وتصبح كل المواقع داخل لبنان هدفاً شرعياً». ثم فسرت عملية رفع القيود بأن الولاياتالمتحدة ضغطت على اسرائيل في حرب تموز 2006 محذرة من ضرب المواقع الحكومية. ولما وافق عهد الرئيس ميشال سليمان على شرعية سلاح المقاومة، علق وزير الدفاع ايهود باراك على ذلك القرار بإعفاء نفسه من مسؤولية تدمير البنى التحتية اللبنانية لأن رئيس الجمهورية أعطى الضوء الأخضر لنشاط المقاومة. ويرى بعض المحللين أن "حزب الله" قد يكون أخذ هذا الجانب العسكري في الاعتبار، ومنع نتانياهو وليبرمان وباراك من استغلال فوزه لتسديد ضربة موجعة الى لبنان تحرجه مع الدولة والمواطنين، وتنسف مشروع أوباما. المهم، أن "حزب الله" رد على حملات الإعلام الأميركي ببيان أكد فيه أن «وجود المعارضة في لبنان يشكل سداً منيعاً أمام مشاريع الفتنة الأميركية وتدخلاتها الوقحة في شؤونه الداخلية". وقال إن "مواقفه من الانتخابات أمثولة يحتذى بها لأنها تقدم الدليل على حجم الالتفاف الشعبي حول المقاومة وخياراتها». في مطلق الأحوال، يبقى أن لبنان فوّت على اسرائيل "قطوع" حرب مباغتة، وأثبت أن ديموقراطيته تزدهر وتنتعش وتحاكي سويسرا في تجلياتها شرط اقصائه عن كل التدخلات والمؤثرات الخارجية. ولكن هذا لا يعني أنه خرج نهائياً من منطقة الأعاصير والزوابع على اعتبار أن كتلة النار قد ترمى بين يدي سعد الحريري أو نجيب ميقاتي أو محمد الصفدي. والمؤكد أن سعد الحريري كان يتهيأ لتسلم رئاسة الحكومة منذ اتفق مع الرئيس فؤاد السنيورة على خوض الانتخابات النيابية في صيدا. وقد خضع هذا القرار لسلسلة اجتهادات اعتبر بعضها أن الوزيرة هيلاري كلينتون هي التي نصحته بعدم اعتزال السياسة. والصحيح أن سعد الحريري راهن على الفوز وعلى إمكان اختيار السنيورة وزير دولة للشؤون المالية، مثلما بدأ في عهد المرحوم والده. والملاحظ أن اسم نجيب ميقاتي ارتفع خلال الأيام الثلاثة الأولى من هذا الاسبوع لكونه يمثل تيار الوسط داخلياً. كما يمثل موقع التقاطع السوري - السعودي عربياً. وفجأة، قطع الحريري هذه التوقعات عن طريق إعلانه في الصحف الأميركية والبريطانية والايطالية، أنه على استعداد لقبول التحديات السياسية، معتبراً أن جريمة اغتيال والده أصبحت من اختصاص المحكمة الدولية... وأن طموحاته السياسية لا تقيدها أي اعتبارات. وكان بهذا الكلام يشير الى استعداده للتعاون مع دمشق. * كاتب وصحافي لبناني