بعد 30 سنة على معرضه الأول في باريس، يعود أنيش كابور، أحد أهم النحاتين المعاصرين في العالم وأكثرهم شعبية، ليثير الجدل في العاصمة الفرنسية بمنحوتته العملاقة «ليفياثان» التي صنعها خصيصاً لفضاء «مونومنتا» (تظاهرة فنية سنوية) في ال «غران باليه». وعلى رغم لغز هذه المنحوتة التي صنعت يدوياً في قاعة «غران باليه»، واستخدم فيها كابور 27 ألف متر مربع من القماش (15 طناً)، بمساعدة 40 متخصّصاً، فهي بقيت محاطة بهالة من السرية حتى اللحظة الأخيرة من العمل عليها، وهي تعرض للجمهور ابتداءً من اليوم. و«ليفياثان» (Leviathan) هو وحش بحري مذكور في التوراة، وتستخدم الكلمة أيضاً للدلالة على الشيء الهائل الضخامة، وهنا توحي المنحوتة بكائن أسطوري مخيف. وصنعت «ليفياثان»، ناعمة الملمس، وداكنة الحُمرة من الخارج، من آلاف القطع المعدنية والخشبية التي تشكل البنية المعقدة لهذه الفقاعة. صقلت في إيطاليا ثم أعيدت في أربع كتل إلى «غران باليه» في باريس لتُجمع في منحوتة ضخمة. يهدي كابور المنحوتة إلى الفنان والناشط الحقوقي الصيني آي ويوي، الذي اعتقل في بلاده ووضع أخيراً في سجن انفرادي. المنحوتة سريعة الزوال، تتحدى الجاذبية ب 72 ألف متر مكعب من الهواء المحصور في داخلها، ويمكن للزائر دخولها. ويقول جان دو لوازي مدير «مونومنتا» عن منحوتة كابور في حديث إلى جريدة «لو فيغارو» الفرنسية: «إنها تجربة حسيّة، حميمة وأسطورية على حدّ سواء، عندما تدخل تشعر كأنك تكتشف الإحساس الأول عند الولادة من الرحم». واعتبر دو لوازي أن «الجمهور الفرنسي سيشعر كأن المنحوتة سحر أو إحساس مفقود، فداخلها معتم، ظلمتها عريقة وكونية وشفافة، تحجب الإضاءة المكثفة التي تشتهر بها قاعة غران باليه». ويوضح أن الجمهور سيؤدي، كالعادة، دوراً في العمل ولو من خلال حضوره وحسب. وكان «مونومنتا» استقبل 150 ألف زائر تقريباً، في كل معرض استضافه منذ 2007. ويتوقع أن يجذب كابور، البريطاني المولود في مومباي (1954) من أب هندي وأم عراقية، عدداً أكبر من جمهور الفن المعاصر. وفي حين تساءل النقاد كثيراً عن سرّ جماهيرية هذه الأعمال التي تحمل أفكاراً ورموزاً ورؤى أقرب إلى الألغاز، لعل الإجابة تكمن في المفاجأة والرهبة اللتين تحدثهما في النّفس تلك المنحوتات الهائلة والتي يغلب عليها اللون الواحد. ولا ننسى أن كابور غالباً ما يُشرك المتلقي أو المشاهد في العمل بمجرد المرور أمام المنحوتة، كما حصل مع «المرآة» التي عرضت في «ميلينيوم بارك» في شيكاغو. وكابور الذي ارتبطت منحوتاته التجريدية بلغز الإنسان هو الفنان الرابع الذي دعي لابتكار عمل مثير خاص بفضاء «مونومنتا»، على مساحة 13500 متر مربع وارتفاع 35 متراً، وذلك بعد استضافة الألماني المقيم في فرنسا، أنسليم كييفير، والأميركي ريتشارد سيرا، والفرنسي كريستيان بولتانسكي. وفي مقابلة مع «فيغارو» اعتبر كابور أن عرض عمل له في بهو «غران باليه» وفي فضاء «مونومنتا»، هو تحدّ كبير ومثير للاهتمام في حد ذاته، مشيراً إلى أن «حجم القصر هائل ومن الصعب استغلال مساحته كاملة كما في متحف «تايت مودرن» في لندن». أضاف: «في أعلى هذا الصرح يواجه الفنان اختبار الضوء المتغيّر باستمرار، والذي أثّر بالتأكيد على مشاريع سابقة ابتكرها فنانون خصيصاً لفضاء «مونومنتا». لكن أليس انعكاس الأحاسيس والضوء والعتمة من اختصاص كابور الذي يعتبر من أكثر النحاتين غزارة؟ يجيب: «المعيار يبقى لغزاً وحتى المنحوتة نفسها لا تفسّر هذا اللغز. الشيء الكبير ليس بالحجم والطول، كل شيء يرتكز إلى المعنى والإحساس. ربما أصنع عملاً ل «رويال أكاديمي» (البريطانية) أو تحت سماء باريس، لكن الشاعرية تبقى هي نفسها». وعن «ليفياثان»، قال الفنان الذي عرضت أعماله في أهم متاحف العالم: «أتناول العلاقة اللامتناهية بين النظام الفلكي وظلمات عالمنا الجسد ية. فالإنسان يتساءل عن خبايا الأرض وما تحت جلده، شأن النحات الذي يستند إلى معطيات فيزيائية سرعان ما ترتقي إلى معطيات ميتافيزيقية. والنحت ليس إلا وسيلة لطرح التساؤل عن مادية العالم». وحول إشكالية أعماله، أكد كابور أنها «ابتكار شيء لا يرتقي إلى شيء، شيء ضخم مركب ومعقّد غير مريح، لا يمكن للناظر إليه الإحاطة به». وأوضح أنه لا يسعى إلى إضفاء طابع استعراضي على العمل، ويؤثر المواجهة بين الإنسان والمكان عبر عمل فني، سواء في باريس أو في لندن أو أي مكان. وعن جماهيرية أعماله قال: «إنه سرّ. لا أريد فتح جدال حول الاستعراضات المعاصرة حيث الفنان رهينة عصره، الفن شيء آخر. لكنني أؤكد أنني لا أمتهن الفن من أجل جمهور. بل أبتكر عملاً وأمنحه له». هندسة فلسفة الشرق يلاحظ المتابع لأعمال كابور تأثره بالفلسفة الشرقية، المتميزة بزهدها وبلاغتها وتوتّرها، على غرار أعمال ريتشارد سيرا وكارل أندريا. غير أن كابور، الذي حاز عدداً كبيراً من الجوائز، أشهرها جائزة "تيرنر" العام 1991، يتفوّق عليها بتمسكه بعنصر الحكاية وقضايا الوجودية واللانهاية. فهو يلعب على قضايا من نوع الوعي واللاوعي، المرأة والرجل، الروح والجسد، الضوء والعتمة، المرئي واللامرئي... كابور الذي صعد نجمه، في الثمانينات من القرن العشرين، كنحات بريطاني ابتكر أسلوباً بسيطاً وعميقاً، تصنّف أعماله بين الفنية والهندسية. وإذ حوّل محطة مترو في نابولي- إيطاليا إلى تحفة فنية، فهذا يؤكد عنصر الهندسة وربما التنمية العامة في أعماله. أما عمله على المسرح، حوّل الخشبة من مادة جافة إلى لغة مرنة، متعاوناً في ذلك مع أشهر فناني العروض الحية، مثل مصمّم الرقص المعاصر البريطاني أكرم خان.