تمتّعت البوسنة بخصوصية واضحة في ما يتعلق بالتواصل مع الأدب العربي، دراسةً وترجمةً، خلال وجودها في يوغسلافيا السابقة، وذلك بالاستناد الى الصلات الثقافية التي ربطتها بالثقافة الشرقية خلال الحكم العثماني الطويل الذي امتد من 1462 إلى 1878، وحتى خلال الحكم النمسوي (1878-1918)، فقد انتشرت هناك اللغة العربية مع انتشار الإسلام، وغدت إحدى اللغات التي أصبح المثقفون البوسنويون يبدعون بها. وبعد انضواء البوسنة في مملكة يوغسلافيا، التي تشكلت في 1918، انفتحت الطريق الى القاهرة عوضاً عن إستانبول، التي لم تعد جاذبة بعد نقل العاصمة الى أنقرة، حيث سادت الكمالية الراغبة في التحرر من الشرق. ثم توسعت هذه الطريق أكثر في العهد الجمهوري نتيجة للعلاقة التاريخية بين تيتو وعبد الناصر وحركة عدم الانحياز. من هنا، لم يكن من المصادفة أن يكون صفوت باشأغيتش (1870-1934) أول بوسنوي يناقش رسالة دكتوراه في قسم الدراسات الشرقية بجامعة فيينا في 1912، وأن يكون فهيم بايراكتاروفيتش (1889- 1971) أول بوسنوي ينصَّب «عميدَ الاستشراق» في يوغسلافيا، بعد أن أسّس وترأس أول قسم للاستشراق في جامعة بلغراد عام 1926. وفي هذا السياق أيضاً، لم يكن من المصادفة أن يتم اختيار سراييفو عام 1950 لتأسيس فرع للاستشراق في كلية الآداب بالجامعة ومعهد للاستشراق الذي كان وبقي الوحيدَ من نوعه في يوغسلافيا حتى انهيارها في 1991، وتأسيس كلية للدراسات الإسلامية في 1977، التي اشتملت مناهجها أيضاً على دراسة الأدب العربي من العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث. ونتيجة لهذا السياق التاريخي الثقافي، شهدت البوسنة في النصف الثاني للقرن العشرين والعقد الأول لاستقرار البوسنة بعد الحرب (1995-2005)، عدةَ موجات من الانشغال بالأدب العربي دراسةً وترجمةً، وأدى انشغال يوغسلافيا التيتوية بحركة عدم الانحياز الى ترجمة بعض الأعمال الشعرية والروائية للمشرق والمغرب، من الفرنسية والروسية، في حين أن الترجمة من العربية انطلقت لاحقاً بعد أن بدأ قسم الاستشراق ومعهد الاستشراق يكوّنان الكوادر الأولى المتخصصة في دراسة الأدب العربي وترجمته. وعلى حين أن «الاختيارات» الأولى في خمسينات وستينات القرن العشرين كانت بطابع أيديولوجي، وشملت الكتّاب الذين اشتهروا في أوروبا الشرقية (عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور)، نجد أن الدراسات والترجمات اللاحقة جاءت بمعايير أكاديمية شاملة، لأنها شملت الأدب العربي من امرئ القيس الى محمود درويش، ومن عبد الله بن المقفع الى حنان الشيخ. ومع هذا التوسع والتعمق في آن بدراسات الأدب العربي وترجماته، جاء تشظي يوغسلافيا الى جمهوريات متصارعة ليضيِّق سوقَ النشر، كما أن مصاعب ما بعد الحرب أثَّرت على حركة النشر وقراءة الكتاب في كل جمهورية. ومن هنا، أصبح الإنتاج الأكاديمي، من رسائل ماجستير ودكتوراه عن الأدب العربي يُركن في الرفوف خلال السنوات الأخيرة. إلا أن الوضع بدأ يتغير الآن نحو الأحسن، مع بادرتين تَعِدَان بموجتين قويتين من الدراسات والترجمات للأدب العربي من أقدم عصوره الى الآن. أما البادرة الاولى، فتدعمها «مؤسسة عبد العزيز البابطين»، التي عقدت دورتها الثانية عشرة في سراييفو في خريف 2010، وأصدرت بهذه المناسبة بعض الكتب من نتاج الأكاديميين البوسنويين. وبهذه المناسبة بادرت «مؤسسة البابطين» مشكورة الى الاتفاق مع معهد الاستشراق وقسم الاستشراق في سراييفو على تمويل إصدار خمسة كتب في كل سنة لخمس سنوات قادمة، ما يعني طباعة أهم ما أُنتج أكاديمياً عن الأدب العربي في البوسنة. ويكفي هنا أن نلقي نظرة على الدفعة الاولى التي ستصدر خلال 2011 لنقدّر ما أنجز وسينجز خلال السنوات القادمة: ففي الدفعة الاولى لدينا دراسة أكاديمية عن «المجازات والبدائع في اللغة العربية» لمنير موييتش، ودراسة أخرى بعنوان «القيم الأسلوبية للنعت في اللغة العربية» لألما دزدار، كما لدينا دراسة مونوغرافية عن أحد الشعراء البوسنويين الذين كتبوا باللغة العربية خلال الحكم العثماني للبوسنة، ألا وهي «قصائد الغزل العربي لأحمد خاتم البوسنوي» لميرزا سرايكيتش.ولكن الأبرز في هذه الدفعة هي الدراسات الجديدة عن الأدب العربي، فلدينا دراسة «تلقّي الأدب العربي في البوسنة والهرسك من سنة 1950 الى سنة 2005 « لجليلة بابوفيتش، التي تستعرض وتحلِّل ما تُرجم، وما أثَّرَ بدوره على الأدب البوسنوي المعاصر، من الأدب الجاهلي وحتى الأدب العربي الحديث، وهي الدراسة التي تستحق عرضاً خاصاً، بل وترجمة كاملة الى العربية. أما الدراسة الأخرى، فهي «القصة والرواية لجبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني في ضوء نظرية مابعد الكولونيالية» لجنيتا كاريتش، التي تعبّر عن مدى تواصل وتعمّق الجيل الأكاديمي الجديد في البوسنة بالأدب العربي المعاصر. أما البادرة الثانية، التي ستطلق بدورها موجة أخرى من التعريف بالأدب العربي، فتتمثل في اتفاق مع دار النشر «فبز»، المعروفة على نطاق واسع في زغرب، لاصدار سلسلة خاصة عن الأدب العربي باسم «أرابيتسا»، تشمل اصدار خمس روايات مترجمة من الأدب العربي في كل سنة، مما يفتح الباب واسعاً للتعريف بهذا الأدب، ليس في البوسنة فقط وانما في الجمهوريات المجاورة التي كانت جزءاً من يوغسلافيا السابقة (كرواتيا وصربيا والجبل الأسود)، فعلى الرغم من المسمَّيات المستقلة الآن للغات في هذه الجمهوريات ( اللغة البوسنوية واللغة الكرواتية واللغة الصربية واللغة المونتينيغرية)، إلا أنها تخفي فروقات بسيطة لا تمنع من قراءة ما يصدر هنا وهناك، ولذلك فهي تشكِّل سوقاً واحدة للكتاب تضم 15 مليون نسمة. كان من الصعوبة بمكان تسويق ترجمات الأدب العربي في كل دولة على حدة، ولكن هذا التوجه الجديد سيضمن للناشر وجود قرّاء لما ينشره من كتب في هذا المجال المحدد. وضمن هذه البادرة أو الموجة الجديدة، سيكون على رأس الإصدارات رواية «البحث عن وليد مسعود» لجبرا إبراهيم جبرا، و «إنها لندن ياعزيزي» لحنان الشيخ، بينما ستعرف بقية الإصدارات قريباً. مع الموجتين الجديدتين، يمكن لنا ان نتحدث عن مرحلة جديدة من التواصل بين الأكاديميا البوسنوية وبين الثقافة العربية، وبالتحديد عن حضور جديد من حيث الكم والنوع للأدب العربي هناك.