قبل سنوات حضرت مؤتمراً في مستشفى «العزيزية»، كان مرتكزاً على هموم المسنين والمسنات والرؤية المتعلقة بالدُّور الخاصة التي بدأت تفتتح لهم، وكان الهجوم شديداً - على ما أذكر - على استيراد الفكرة من الخارج، وتحدّث الكثيرون بعاطفة شديدة فيها الكثير من المبالغة التي لم تجعلني أتمكّن من السكوت، وتناولت الميكرفون كالعادة وأخبرتهم برأيي الخاص عن عدم واقعية النظرة التي يتحدثون عنها بهذه الصورة، وباستخدام كثير من الشعارات الرنانة التي نعلم عن ندرتها في هذا الزمن، على رغم وجود حالات كثيرة تطابق الصورة التي نتمناها لكبار السن، هناك بالطبع أبناء بررة يعرفون واجباتهم تجاه من أنجبهم ورباهم وصرف عليهم وعطف وأعطى بلا حدود، وهناك على النقيض من يحتفظ بالوالدين في منزله خوفاً من كلام الناس في ملحق خارج الفيلا أو الدور الأعلى، مع توفير العاملة المنزلية وغيره بلا أدنى اهتمام ومشاعر، فتمرّ الشهور من دون أن يشاهداه أو يشاهدا زوجته ولا أولاده أيضاً، وهو يعتقد أن ما يقدمه هو الرفق والبر والرعاية والإحسان، وفي رأيي أن هذا هو الحد الأدنى من الرعاية التي هي توفير الحاجات الأساسية فقط. بالطبع لا أوافق على إيداع كبار السن في بيوت غير بيوتهم التي اعتادوا عليها إلا في حالات نادرة، وهي عدم وجود من يرعاهم بشكل حقيقي ومتكامل في ظل انشغال الأبناء والبنات في العمل، لأن هذه الدُّور توفّر صديقات في السن نفسها وفي الظروف نفسها تمكّن المسنة من عقد صداقة تملأ فراغ حياتها، أو تكون في ظروف صحية سيئة تكون رعايتها في هذه الدور أفضل لها من جميع الاتجاهات عوضاً عن (رعاية يتبعها أذى) وتمنن وضيق وغيره. كانت فكرة أحد الدور التي زرتها في جدة رائعة، وهي بقاء المسنة طوال اليوم أو معظمه في الدار، على أن تعود آخر اليوم لتنام في منزلها وبين أولادها، وكانت هذه مداخلتي، لأن الفكرة لا تنقلها نقلاً إلى دار لا تعرفها بل تجعلها تذهب إلى هناك وكأنها في دوام رسمي مثلها مثل بقية أفراد الأسرة، وهي تعلم أنها ستعود إلى مرقدها وغرفتها وأغراضها. تذكرت هذا الموضوع وأنا أقرأ بوجع بالغ وغضب أشد حادثة إلقاء أم على قارعة الطريق، وحتى لا نتجنى على أبنائها فلربما كانت الأم نتيجة سنها (خرجت بمفردها وهذا يحدث في كثير من الأحيان) أما لو كان العكس حدث وأُخرجت الأم جبراً من بيتها بعد أن تنازلت طواعية عن أملاكها لابنتيها فينبغي لنا أن نقف طويلاً وكثيراً لنعيد التفكير أيضاً في ضرورة اعتبار المسنات والمسنين يحتاجون فعلاً لتوعية كبيرة في عدم تنازلهم عن أملاكهم وهم أحياء يرزقون، حتى لا يحدث لهم مثلما حدث لهذه السيدة إذا صحت الرواية أو التخمين الثاني... تحتاج هذه الفئة للتوعية ولملء وقت فراغهم، وفي اعتقادي الشخصي توفير أندية اجتماعية كما هي الحال في مصر يوفّر قاعدة اجتماعية للتعارف ويملأ وقت الفراغ، مع توفير دُور في كل حي تتيح للمسنات الاستفادة من خدماتها النفسية والاجتماعية والطبية والقانونية، أيضاً تكون لهم سنداً لو أدارت لهم الدنيا وجهها بعدما أعطوا بلا حساب... أنا ضد معاقبة الأبناء والبنات، ولكن مع أخذ حق الأم والأب بقوة... الحب لا يُطلب والاهتمام والرعاية إن لم تكن من القلب فلا أحد يحتاج لها... عودة إلى الخبر المنشور في الصحف، فقد أودع الضابط المكلف الأم في أحد الدور رغماً عنها، لأن أبناءها لا يتجاوبون مع الاتصالات... لذلك يجب أن نرى مشكلاتنا بوضوح من دون تزييف ونضع لها حلولاً واقعية من دون رفع الشعارات، فالمستشفيات مليئة بأشخاص تولى عنهم أقرب الناس على رغم قدرتهم على رعايتهم، علينا أن نذكّر بعد وضع الحلول المتاحة بعظم حق الوالدين، خصوصاً عندما تتولى عنهم الصحة ويغزو الشيب رؤوسهم ويقسو عليهم أقرب الناس. [email protected]