عندما تستمع إلى المهندس السعودي عبدالله العسكر العائد من أميركا حاملاً شهادة ماجستير، يرن في ذاكرتك شخص رفاعة الطهطاوي؛ المصري الذي ابتعث إلى فرنسا قبل نحو قرنين، فعاد مبهوراً بالحضارة الأوروبية، وقدم الكثير لبلاده. أكثر ما جذب عبدالله في بلد ابتعاثه المعاملة الحسنة التي لمسها بين الأميركيين. ويقول: «كثيراً ما ترددت على مسامعنا عبارة الدين معاملة، لكن للأسف لم أر تطبيقاً ملموساً في مجتمعنا، على عكس ما وجدته في أميركا». ويعزو ذلك إلى المدرسة وأثرها في تربية الإنسان وصقله: «اتضح لي أن الأساس في التربية هي المدرسة، فالطفل يقضي جل وقته فيها، ما يعني أن الاحتكاك والتأثير الأكبر يحدث خلال هذه الساعات الثمانية». ويضيف: «كل ما كنا نتعلمه كان مجرد حشو للمعلومات من غير تطبيق عملي لما ندرس. لم يكن المدرس يطبق ما يمليه علينا، بل كان أول المناقضين له. فكانوا ينهوننا عن الكذب وأرى معظم من حولي يكذب! أراهم يأمروننا بالنظافة والحفاظ على البيئة من حولنا، وكل قدوة يناقض قوله بفعله، فما الذي سأتعلمه؟». ويشبه عبدالله التعليم في السعودية ب «الشحن والتفريغ». ويروي عن تجربته: «ما رأيته في أميركا كان شيئاً مختلفاً، يشجع الطلاب على التعلم وهذا ما نفتقده. فالأخلاق لديهم مسألة عجيبة، والتزامهم بحميدها محيّر، مع أن كثيراً منهم لا ينتظر ثواباً أو عقاباً على ما يفعلون، بل يقوم بها من دافع داخلي لا اعلم ماهيته». ويذكر أحد المواقف التي هزته وأحرجته: «كنت ادرس في أحد الصفوف ولدينا اختبار فصلي للمادة. بعد تسليم الأوراق خرجنا من القاعة فقابلت أحد الأصدقاء الذين يتابعون المادة نفسها في حصة لاحقة وأخذ زميلي يشتكي من أنه لم يتمكن من الاستعداد للاختبار فقمت من باب المساعدة بعرض أسئلة اختباري عليه لينقذ نفسه. وإذا به ينظر إلي ويشكرني، رافضاً الأوراق لأن ضميره سيؤنبه كثيراً». و»الطهاطهة الجدد» تعبير بدأ يدرج ويشمل شباناً سعوديين عادوا بأفكار جديدة وانفتاح على الآخر، بعد رحلات ابتعاث ناجحة. ونجح هؤلاء الشبان في الموازنة بين «الحنين إلى الوطن» و»الذوبان في البيئة الجديدة» بشكل لا يغلب أي من العاملين على الطلاب الدارسين في الخارج. ياسر عبد العزيز عاد حاملاً شهادة ماجستير في الهندسة من أميركا ومعها أيضاً سقف أعلى من الأفكار والحريات. ويقول: «المبتعث يسافر حاملاً ما يعتقد أنه سقف للأفكار والحريات لا وجود لأعلى منه، بسبب بعض المسلمات التي ورثها ولم يجرؤ على تحديها لأنه لم يكن يؤمن أو يعلم بوجود غيرها». ويرى عبد العزيز أن مقولة «عندما تحضر الإرادة تحضر الوسيلة» تلخص نجاح الشخص في الحياة. ويقول: «لا يوجد ما يمنعك من الوصول إلى القمة إذا كان لديك العزم والإرادة». ويتابع: «عندما تعيش اكثر من 20 سنة من عمرك في حياة فوضوية، وتفتح عينيك فجأة على عوالم من الاحترام والنظام، ترى سهولة العيش وبساطة الوصول إلى المبتغى من دون كثير عناء». لكنه يعود هو أيضاً إلى جزئية المعاملة التي أثرت فيه. ويقول: «أكثر ما يلفت هو الاحترام الذي تراه في كل مكان تذهب إليه. أينما ذهبت ترى الاحتراف والإخلاص في العمل، كما تجد الابتسامة تقابلك». أما فهد خالد حامل شهادة البكالوريوس من أميركا فيشكر الله على 20 سنة قضاها في كنف والديه، لكنه حين قرر الدراسة في الخارج وضع في باله أن كل شيء ممكن الحدوث. وأبرز ما جذبه في الابتعاث هو «الاستقلالية». ويقول: «الحياة لها طعم مختلف وجميل، هي خليط من المسؤولية والحرية معاً. طوق جميل ومساحة من الحرية يجعلان الإنسان يعيد التفكير في أمور كثيرة». كذلك كانت تجربة المعيشة خارج الوطن معلماً له لتحمل «المسؤولية الكاملة»، وترتيب الأولويات. ويرى الاستشاري النفسي الدكتور جمال الطويرقي من جهته، أن مسألة تغير عقلية الإنسان وأفكاره دفعت دولاً عدة إلى أجراء دراسات حول هذا الموضوع. ففي التسعينات أجرت اليابان والولايات المتحدة دراسة لبحث الآثار الجانبية للابتعاث، وكيفية تفاديها، وحصلا على نتائج أهمها تقسيم المبتعثين إلى ثلاث مجموعات. المجموعة الأولى: لا تستطيع التأقلم مع بيئة مختلفة عما كانت عليه. يجد أفراد هذه المجموعة صعوبة في الاختلاط والتعامل مع من حولهم، ولا يستطيعون تغيير ما هم عليه، إضافة إلى أن راحتهم النفسية واستقرارهم لا يحدثان إلا بين أحبابهم وفي بيئتهم التي اعتادوها. ووضع الباحثون فترة زمنية لهذه المرحلة البالغة ستة أشهر، وأطلقوا عليها مسمى «الحنين إلى الوطن» (home sick). أما المجموعة الثانية: وهي التي تذوب في المجتمع الآخر وتنخرط فيه، فيصل أفرادها إلى مرحلة «الانسلاخ» عما هم عليه والانخراط والذوبان الكلي في البيئة الجديدة، فيجدون صعوبة في التفريق بينهم وأبناء البيئة التي يعيشون فيها. وهذه البيئة تحتاج إلى 4 سنوات على الأقل للوصول إلى مرحلة الذوبان الكلي. المجموعة الثالثة: وهي التي تظل متمسكة بالمبادئ والأساسيات التي جاءت بها مع البحث عن التطوير والجديد، وهذه هي المجموعة التي يستفيد منها بلد المبتعثين من نتائج عودة أبنائه إليه. فينخرط أفراد هذه المجموعة في البيئة الجديدة مع التمسك بقيمهم ومبادئهم بحيث يأخذون منها ما هو مفيد ويبحثون عن ما فيه خير لهم ولبلده. ويشير الطويرقي إلى أن اليابان أخذت بنتائج هذه الدراسات وطبقتها كمسلمات، ويقول: «هم يعيدون مبتعثيهم الذين لم ينجزوا في الأشهر الستة الأولى، لأن نفعهم سيكون داخل البلد نفسه أكثر»، كما تحرص اليابان على ألا تزيد فترة الابتعاث عن 4 سنوات «لئلا يذوبوا كلياً وينسوا بلدهم الأم».