تشهد المنطقة العربية تحولات كبرى في الواقع السياسي منذ بداية ثورة تونس، ومروراً بالثورة المصرية، ووصولاً إلى ثورة ليبيا، وما يجري في اليمن والبحرين، وفي سورية أخيراً، كل ذلك كان حصيلة للكثير من الاحتقانات والاخفاقات التي عانت منها الحكومات في تلك الدول وعجزت عن تحقيق الكثير من المكاسب المشروعة لشعوبها. ومع تراكم الاخفاقات انفجرت الأوضاع بطريقة عكسية ارتدت على تلك الحكومات، ما أدى في النهاية إلى تغييرات جذرية طالت كلاً من النظام في تونس ومصر. وأمام ما يجري اليوم في ليبيا من قتال عنيف بين الثوار والنظام الليبي، تتجلى لنا بعض الدلالات التي تكشف عن طبيعة كل ثورة وحيثياتها، والظروف التي تحكم تحولاتها وما إلى ذلك من شروط تختلف من بلد إلى آخر، ففي ليبيا تفاقمت الأوضاع على نحو عنيف كرد فعل على حكم القذافي الذي قام بعزل الشعب عن العالم، ومارس في حقه الكثير من العسف والظلم المصاحب للعنف والملاحقات؛ الأمر الذي أدى إلى ذلك الرد العنيف بعد أكثر من 40 عاماً من الحكم المنفرد. في اليمن يراوح الحراك الشعبي ضد النظام من دون أن تكون هناك قدرة على تحقيق تحولات حيال وضع النظام، على رغم أن المظاهرات في اليمن تزامنت مع ثورة مصر. ربما كان الخليج وطبيعة تركيبته السكانية وعلاقات حكوماته الملكية والأميرية بشعوبها أكثر استقراراً، فتلك الحكومات الخليجية ظلت، وعلى مدى طويل، تترجم العلاقة بين الشعب والحكومات عبر الكثير من المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، بطريقة جعلت من شعوب دول الخليج تحقق طفرات متقدمة في التعليم والتنمية والإنتاج والخدمات الاقتصادية، وبوجه عام جعلت من الاستقرار في الحياة العامة مدخلاً لعلاقات قوية بين الحكومات وشعوبها، ذلك أن وتيرة التنمية في بلدان الخليج لم تتأسس حول شعارات ثورية وقومية كتلك التي رفعتها الحكومات الجمهورية في البلدان العربية، وظلت تستهلكها طوال 60 عاماً من دون أن يكون هناك تحقيق لتلك الشعارات في أرض الواقع، والأسوأ من ذلك أصبحت تلك الجمهوريات بعكس شعاراتها، إذ ظهرت ظاهرة التوريث في الكثير من الدول العربية لتعكس ما آلت إليه الأوضاع، فانكمشت وتيرة التنمية وارتفعت البطالة، وكثر القمع والمحسوبية والرشوة والفساد، الأمر الذي جعل من طبيعة الحياة في ظل تلك الأوضاع جحيماً لا يطاق، فكانت الهجرة إلى دول الخليج من تلك الجمهوريات، أو إلى أوروبا بحثاً عن أوضاع آمنة وفرص للعيش الكريم. وبحسب بعض التقارير الأميركية على ضوء الأوضاع الجديدة في الشرق الأوسط بدا أن الوضع في الخليج والمملكة المغربية والمملكة الأردنية هو الأوفر حظاً في الاستقرار، إذ إن التحركات التي تنشط في بعض هذه الدول تنحو نحو التغيير من داخل النظام، كالشعار الذي ظهر في مظاهرات الأردن «الشعب يريد إصلاح النظام»، بدلاً من الشعار الذي ظهر في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، وهي كلها جمهوريات «الشعب يريد إسقاط النظام». كل هذه التحولات لا تعني بالضرورة أن ما حدث في مصر وتونس يمكن أن يحدث في الخليج، فالثورات لا يمكن أن تستنسخ مادام لكل شعب عربي شخصيته وشفرته الخاصة، فمثلاً لأن التجانس الديني والعرقي والاجتماعي في مصر وتونس كان أقرب للحال المدينية كان التغيير سهلاً وممكناً بأقل التكاليف، أما بالنسبة لليبيا فلأن ثمة وجوداً للقبلية حتى على مستوى أسماء المدن ك«بني غازي» وغيرها، وكذلك لوجود القمع المفرط والتعتيم الإعلامي أصبح التغيير صعباً؛ بل أصبح الصراع من صراع سلمي مع السلطة إلى صراع مسلح، وربما ينفتح الوضع على تدخلات دولية قد تؤدي إلى قلب المعادلة في ليبيا كما شاهدنا أخيراً. لا يمكن للأوضاع في الخليج أن تتجه إلى ما آلت إليه في تونس ومصر لاختلاف الأسباب الجوهرية، ففي السعودية تستند طبيعة العلاقة بين مؤسسة الدولة والشعب إلى شرعية تاريخية للملك المؤسس عبدالعزيز، رحمه الله، فهو الذي قام بتأسيس الدولة بالتوازي مع تأسيس المجتمع، عبر تأسيس الهجر، وتشكيل مؤسسات الدولة جنباً إلى جنب مع بناء التأسيس الاجتماعي والمديني، فكانت نهضة السعودية هي بالأساس نهضة مجتمع، وهذه العلاقة تجعل من طبيعة الاستقرار الذي أسست له ببنية تحتية جبارة، واستثمار هائل في التعليم والخدمات والمؤسسات الاجتماعية المختلفة، والهيئات التي حملت على عاتقها تعميق فكرة المواطنة عبر الحوار في مختلف قضايا الوطن، حتى أن الملك عبدالله بن عبدالعزيز جعل من آلية الحوار الشعار الوحيد للتواصل بين المواطنين مع بعضهم البعض من ناحية، وبين المواطنين ومؤسسات الدولة من ناحية أخرى، وفي ظل الحوار وحده تتنفس كل الاحتقانات، وتتضح الرؤى، ويفهم الجميع بعضهم البعض. كذلك كانت الكويت من أولى الدول التي أسست علاقات المواطنين مع الدولة على فكرة الحوار الديموقراطي. وبمعنى آخر نجد أن التنمية كآلية من آليات البناء الوطني وتعزيز قيم المواطنة كانت هي القاسم المشترك بين دول الخليج وبين شعوبها، وهو ما غاب في تلك الجمهوريات التي جعلت من الشعارات بديلاً عن التنمية، وبمرور الزمن انفجرت الأوضاع إلى درجة أصبح معها من المستحيل العودة إلى الوراء. محامٍ ومستشار قانوني [email protected]