«خُلسات الكرى» و «رشحات الحمراء»، دفتران من دفاتر تدوين جمال الغيطاني صدرا بالفرنسية، فكان هذا موعداً معه. في المقهى الأدبي في مبنى معهد العالم العربي وقبل بدء الجلسة الحوارية تبادلنا كلمات قليلة مع الكاتب وكان السؤال الأهم الذي أتى بعد «كيف كانت مصر حين تركتها؟» هو ما أخبار «أخبار الأدب؟»، المجلة التي كان يرأس تحريرها وسلمت بعد تقاعده أخيراً إلى رئيس تحرير نجح منذ الأيام الأولى له في إثارة غضب المحررين ودفعهم إلى إعلان الإضراب عليه. بدا الغيطاني متفائلاً بمستقبل مصر وشديد التشاؤم بما ينتظر المجلة. تمهل الحضور بالمجيء، وجاء تعليق «لعلهم أمام الجزيرة يتابعون ما يجرى في ليبيا ...». شرع الغيطاني بالحديث عما تمثله الدفاتر التي كان يحضر لها منذ منتصف التسعينات ك «مشروع روائي طويل»، وتكلم عن علاقته المعروفة مع التراث العربي والفارسي والشرقي عموماً ولكن الأمر مختلف مع الدفاتر حيث «لا مرجعية في الأسلوب ولا في اللغة». ومما قال: «في الزيني بركات كان الأسلوب المملوكي، وفي التجليات كانت الرؤية الصوفية للغة، أما دفاتر التدوين فكان الأمر بالنسبة لي الدخول في أرض لا أعرف عنها مسبقاً أي شيء. دخلت فيها تشغلني قضايا روحية والأسئلة الكبرى. ثمة أسئلة كانت تحيرني من نوع «ماذا كان يمكن أن يكون لو أن ما لم يكن كان؟». المرأة أيضاً تشغل الغيطاني: «المرأة ليست محوراً أساسياً بل هي الحياة نفسها، الرجال مخدوعون فهم أداة. وفي التراث الفرعوني القديم الأنثى هي التي تنجب الألهة». بدأت رعشات قلب صاحب «الحمراء» أمامها، كان في الخامسة حين توجهت مشاعره نحو الحمراء، تلك المرأة التي كانت تعمل في بيت قريب له ومنذ ذلك الحين لم تبرح قلبه «من خلال رحلتي التي بدأتها نحو الداخل والنظر في دواخلي، وجدت أن الحمراء هي أصل كل من أحببتهم في حياتي» يعترف. «دفاتر التدوين» ليست مذكرات بل «محاولة إعادة بناء الوجود الذي يفلت باستمرار من خلال الذاكرة». لقد صدر له سبعة دفاتر و «المشروع مفتوح ...»، فالغيطاني يحاول بالكتابة فهم الزمن» الشيء الوحيد الذي استعصى على الفهم عندي هو الزمن! ومنذ كنت صغيراً كنت أتساءل «امبارح راح فين؟». الشيء الوحيد الذي يقاوم العدم هو الإبداع. إن مقاومة الفناء هي جوهر الحضارة المصرية القديمة كما أن جوهر الشعر الجاهلي هو مقاومة الفناء فالبكاء على الأطلال هو ذروة الإحساس بالفناء». يسعى الكاتب في دفاتره إلى تدوين ما يفنى ليس على مستوى الواقع إنما «على مستوى العمق البعيد وما يتجاوز حضوري المحدود إلى اللامحدود، عندي إحساس أن دفاتر التدوين مرتبطة بالحياة لدي ولذلك أخشى التوقف عن الكتابة فيها»! وتحدث الغيطاني في الجلسة الأدبية عن الثورة المصرية، ورد على أسئلة بعض الحضور. كان مندهشاً من اختفاء ظاهرة «التحرش» المعروفة «طوال أيام الثورة لم يمسّ أحد فتاة! من المعروف أن التحرش ظاهرة معروفة في مصر وغيرها، ولكن حدث هنا نوع من الارتقاء، وكانت المنقبة قرب السافرة والمسلمة الى جانب المسيحية وكانت الثورة هي الأتون الذي تم التطهر فيه». ثم تحدّث عن هذا الجيل الجديد: «ثمة جيل جديد كان يظهر ولم نكن نعرف عنه شيئاً. كنت أسمع عن ال «فايسبوك» ولم أكن أعرفه. وأبدى الغيطاني خشيته على ثورة مصر: «ثمة محاولات لسرقة الثورة سواء من العجائز أو من بعض القوى السياسية وبخاصة الإخوان المسلمين. لست ضد مشاركة أي قوى سياسية أو مصادرة أحد بمن فيهم الإخوان لأنهم سيأخذون حجمهم الحقيقي لو شاركوا. المشكلة هي في وجود صراع بين اتجاهين أحدهما يريد دولة مدنية فيها حقوق المواطنة، دولة حديثة، الدين فيها خاص بالفرد، وأنا أنتمي شخصياً الى هذا التيار».