بعد معرض «أيقونات عربية، فنّ مسيحي من المشرق» (2003)، يتابع «معهد العالم العربي» في باريس استكشافه هذا الموضوع الحضاري عبر تنظيمه معرضاً ضخماً انطلق حديثاً ولا يهدف إلى أقل من تسليط الضوء على الإرث الديني والثقافي لمسيحيي الشرق منذ ولادة المسيحية في فلسطين وحتى اليوم، من أجل إظهار تعدّديتهم وغنى تاريخهم بالمحطات والمنجزات. ولتحقيق هذه الغاية، جمع منظّموه أكثر من 300 قطعة فنية وأثرية تسمح طبيعتها وطريقة ترتيبها بقراءة هذا التاريخ المعقّد والطويل والتآلف مع خصوصيات كل مرحلة من مراحله. وفي هذا السياق، يكشف القسم الأول من المعرض في بدايته عملية انتشار المسيحية، فور ولادتها، من القدس إلى أفسوس، مروراً بدمشق وأنطاكيا والإسكندرية، قبل أن تبلغ شمال الجزيرة العربية وروما وإثيوبيا وأرمينيا وبلاد ما بين النهرين. ولأن المسيحيين في الإمبراطورية الرومانية تعرّضوا للاضطهاد حتى القرن الثالث ميلادي، نرى كيف تنظّموا في السرّ، قبل أن ينطلقوا في الاحتفال بشعائرهم الدينية في دور مخصّصة لذلك، كما تشهد على ذلك لوحتان جصّيتان تحضران في المعرض إلى جانب قلائد وتمائم وصلبان من مصر ولبنان. ومع منح الإمبراطور قسطنطين حرية العبادة لجميع الديانات عام 313، انتشرت الكنائس في مختلف أنحاء الإمبراطورية الرومانية، وشُيّدت الكاتدرائيات بإيعاز من هذا الإمبراطور في مختلف المواقع التي لها علاقة قوية بحياة السيد المسيح، مثل كنيسة القيامة في القدس وكنيسة المهد في بيت لحم. ولمنح الزائر فكرة عن هذه المشاريع الهندسية، يستحضر المعرض بعض نماذجها إلى جانب قطع كانت تُستخدم في هذه الكنائس وتعكس جودة عالية في التصنيع، كأوانٍ وصحون ومصابيح ومباخر وكؤوس. ولا يهمل المعرض الخلافات اللاهوتية التي عرفتها المسيحية في القرن الخامس، خصوصاً خلال مجمعَي أفسوس (431) وخلقدونيا (451)، وأدّت إلى تشكُّل الكنائس الشرقية، كالكنيسة النسطورية والكنائس ال «مونوفيزية» (السريانية والقبطية والأرمنية والإثيوبية)، ولا يهمل حياة الرهبنة والتنسّك التي ظهرت منذ القرن الثالث في مصر قبل أن تنتشر في سورية ولبنانوفلسطين، وذلك من خلال أيقونتين مصريتين تمثّلان راهباً برفقة الأخ مرقص، ولوحة جصّية تمثّل مار سمعان العمودي، وإعادة تشييد دير هذا القديس الذي يقع قرب مدينة حلب بأبعاد ثلاثة تسمح للزائر ب «التنقل» داخله. في القسم الثاني من المعرض، نتوقف عند الفتح الإسلامي للشرق المسيحي الذي لم يمنع المسيحيين من البقاء على دينهم والمحافظة على أملاكهم وأماكن عبادتهم ومؤسساتهم ونشاطهم الاقتصادي، ومن لعب دور مهم في الحياة الفكرية والثقافية والاجتماعية في الممالك والإمارات العربية. وفي هذا السياق، تابعت الكنائس المسيحية الشرقية تطوّرها ونشاطها التبشيري تحت راية الإسلام، كما تشهد على ذلك الأديرة الكثيرة التي شُيّدت آنذاك والإنتاج الأدبي والفني في الأحياء القبطية للقاهرة. وخلال القرون التي تلت الفتح الإسلامي، ما لبثت شعوب المنطقة، المسيحية في غالبيتها، أن تبنّت تدريجياً اللغة العربية واستخدمتها في طقوسها الدينية وديكور كنائسها. وقد انطلق هذا التعريب من بغداد حيث تُرجم الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد إلى العربية منذ القرن التاسع. ورُصد في هذا القسم من المعرض فضاءٌ دائري للغات المسيحيين الشرقيين نشاهد فيه مخطوطات قبطية وسريانية ويونانية وعربية نادرة، ونصغي إلى أناشيد دينية بهذه اللغات. تفاعل حضارتين وعلى المستويات: السياسي والاجتماعي والفني، يبيّن المعرض تفاعل الحضارتين المسيحية والمسلمة في شرقنا آنذاك. ففي مصر، تمكّن المسيحيون من تبوّؤ مناصب استراتيجية، وفي بغداد العباسية لمعوا كأطباء وعلماء وساهموا بقوة في حركة الترجمة من اليونانية إلى العربية. وباختلاطهم اليومي، شارك الحِرَفيون والفنانون المسيحيون والمسلمون في تطوير صورية وأسلوب فني خاص لإنجاز قطع من الحياة اليومية وأخرى شعائرية، كالقنينة المزخرفة أو الشمعدان الحاضرين في المعرض واللذين نرى عليهما مشاهد دينية، أو الكؤوس الخزفية التي يعكس أسلوبها تأثّر المسيحيين الشرقيين بمحيطهم الإسلامي. ولا ينسى منظّمو المعرض الحروب الصليبية التي شكّل المسيحيون الشرقيون ضحاياها الرئيسيين، كما يتجلى ذلك في تراجع عددهم في سورية والعراق بدءاً من القرن العاشر، وفي مصر بدءاً من القرن الرابع عشر. حروب لم تحل دون تبادل فني وثقافي بين الطرفين، تعكسه أيقونة مار جرجس في هذا القسم التي تعود إلى القرن الثالث عشر ونرى فيها هذا القديس بزيّ أوروبي صليبي. وفي القسم الثالث من المعرض، يتبيّن لنا كيف استفاد مسيحيو الشرق من توحيد حوض المتوسط تحت سلطة العثمانيين، مع ازدياد عدد الحجّاج الأوروبيين إلى منطقتنا وارتفاع حجم صادرات التجار الملكيين والموارنة والأرمن إلى المرافئ الأوروبية انطلاقاً من مصر، خصوصاً بعد نظام الامتيازات الأجنبية الذي فتح الفضاء المتوسّطي ونظّم العلاقات بين القوى الأوروبية والطوائف المسيحية في السلطنة العثمانية. وفي هذا السياق، برز اهتمام الأوروبيين باللغات الشرقية فاستقدموا لتعليمها في معاهدهم مسيحيين شرقيين شاركوا أيضاً في حركة الترجمة التي نشطت في أوروبا. وفي المقابل، دخلت المطابع إلى شرقنا، بالحرف اللاتيني أولاً إلى حلب، ثم بالحرف العربي إلى دير الشوير في جبل لبنان. ونشاهد في هذا القسم بعض المخطوطات والكتب والأناجيل التي طُبِعت بواسطتها، أو بعض قطعها التقنية، كاللوحات النحاسية التي حُفرت عليها الأبجديات. ولأن الازدهار الاقتصادي والاجتماعي الذي عرفته الطوائف المسيحية الشرقية انطلاقاً من القرن السادس عشر ترافق مع ازدهار فني، يقارب المعرض في هذا القسم تطوّر فن رسم الأيقونات في شرقنا منذ القرن السابع عشر، مبيّناً التأثير الغربي المتنامي في هذا المجال في مستوى خيار المواضيع والصورية والأسلوب، وكاشفاً الدور المركزي لرسامي ومزخرفي مدينة حلب في إنتاج هذه الأيقونات، ومشاركة فنانين من بيروتوالقدس ودمشق والقاهرة في هذه الحركة الفنية. أما القسم الرابع والأخير من المعرض، فيتوقف أولاً عند الدور المركزي لمسيحيي المشرق في انطلاق النهضة العربية في القسم الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، من خلال مؤلفات أدبائهم وأيضاً أعداد من المجلات والصحف التي أسّسوها أو شاركوا في تأسيسها أو تحريرها، ك «الهلال» و «المنار» و «المقتطف». وبموازاة ذلك، يتناول هذا القسم المجازر التي تعرّضوا لها في سورية ولبنان عام 1860، من خلال رسوم مطبوعة تمثّل هذا الفصل المأسوي، وفي تركيا عام 1915 وأدّت إلى نزوح أعداد كبيرة من الأرمن والسريان إلى مخيّمات في لبنان وسورية ومصر. المنفى جزء من التاريخ ولأن هذه الأحداث الصادمة والحروب اللاحقة التي عرفها شرقنا على مر القرن العشرين دفعت العديد من المسيحيين الشرقيين إلى الهجرة، يبيّن هذا القسم كيف يشكّل المنفى جزءاً لا يتجزأ من تاريخهم الحديث، ويطرح مشكلة الذاكرة وعملية نقلها. هكذا نقرأ أعمال كتّاب وفنانين مثل ماري سورا ودور غيز وبيرجيت فندقلي ووجدي معوّض، أي كبحثٍ عن أرضٍ غالية ومفقودة. أرضٌ، تشكّل المواقع الأثرية المسيحية والكنائس والأديرة في أرجائها براهين مادّية على حضور مسيحي فاعل في شرقنا منذ ألفي عام. وربما لذلك تعرّضت هذه الصروح لعمليات تدمير ونهب وحرق منهجية في الفترة الأخيرة. عمليات نشاهد بعض آثارها المأسوية في هذا القسم، إلى جانب عمليات حماية وترميم مخطوطات ووثائق وأيقونات، كتلك السريانية التي نقلها معهم الفارّون من جنوب شرق تركيا عام 1915، وانتهت في مكتبة البطريركية السريانية الكاثوليكية في لبنان. وتختم المعرض صور معاصرة تعكس الجغرافيا البشرية لمسيحيي مصر والأردن وسورية وفلسطين والعراق ولبنان. صورٌ تنطق فيها وجوه أولئك الذين يشكّلون جزءاً لا يتجزّأ من عالمنا، في حميمية غرفة، أمام فنجان قهوة، لدى قراءة رسالة حب أو أثناء توثيق الدمار الذي حلّ في بلدة معلولا الآرامية، فتجسّد واقعاً يظهر فيه مسيحيو شرقنا اليوم كالخيط الأكثر هشاشة في نسيج مجتمعاتنا العربية المتعدّدة.