اتجاه جديد تبنته مجموعة من الباحثين في تاريخ مصر الحديث خلال الأعوام الأخيرة وهو الكتابة في تاريخ المؤسسات، ويتطلب هذا اللون من التاريخ إدراكاً خاصاً يتسم بالشمولية بدءاً بالفهم بأن ظهور أية مؤسسة يلبي حاجة سياسية أو اقتصادية أو فكرية، ومروراً بالوعي بأن المؤسسة كائن اجتماعي يتحرك من خلال انتماءات أبنائه ويتفاعل مع الجو الاجتماعي المحيط به ووصولاً لاستيعاب الحقيقة بأن بقاء أي مؤسسة على قيد الحياة مرهون في نهاية الأمر بمقدرتها على أداء وظيفتها الرئيسة التي دعت إلى قيامها، ومن هنا فإنه يمكننا أن نضع دراسة («دير سانت كاترين في العصر العثماني»، الهيئة العامة للكتاب) في مجال التاريخ الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، الذي يهتم بدراسة المجتمعات من حيث التركيب الاجتماعي الطبقي والعادات والتقاليد، ويدرس أيضاً الأقليات الدينية والإثنية من حيث وضعها الاجتماعي ونشاطها الاقتصادي والسياسي. ويقوم هذا الكتاب في أساسه على الوثائق، وإذا كانت مكتبة الدير تشمل في مجموعها وثائق تتعلق محتوياتها بالدير نفسه، فإن هذا لا يقلل من أهميتها للباحث في التاريخ العثماني، لأنها تضم وثائق لعصور أخرى متأخرة، ففي ما يخص عصري الفاطميين والأيوبيين فإنها تضم المراسلات الوحيدة الصادرة عن دواوين الحكومة في صورتها الأصلية، وهي إلى جانب مغزاها التاريخي والحضاري فإن لها مغزى آخر يتمثل في الإسهام في دراسة علم الخطوط والتسجيلات المخطوطة في مكتبة الدير وعلى شرائط الأفلام والتي هي بمثابة همزة وصل بين البرديات من جانب وبين الوثائق المملوكية والعثمانية من جانب آخر. المؤلف عبدالحميد صبحي ناصف يرى أن تعدد تلك المحفوظات والوثائق يعود إلى حرص الرهبان مع بداية عهد كل سلطان أو حاكم على استصدار مرسوم عام يحمل اسمه وتوقيعه. وتتجلى أهمية المخطوطات العربية في دير سانت كاترين في إنها أقدم المخطوطات العربية المسيحية المعروفة إلى الآن في العالم، وقد كُتب أغلبها خارج مصر وحفظها رهبان مصر للبشرية، فهناك مثلاً 14 مخطوطاً ترجع إلى القرن التاسع الميلادي مكتوبة بالخط الكوفي، ثلاثة منها مؤرخة في السنوات 831، 867، 897 م، كما أن لتلك المخطوطات قيمة عظيمة من حيث إنها أتت إلينا من خلال جهة رسمية، هي قصور السلاطين ومحاكم العدل الإسلامية، وتتميز كذلك بالاستمرارية والانتظام من الخلافة الفاطمية وحتى العصر الحديث . ويلاحظ أن تأثير الأدب العربي الإسلامي في بقية المخطوطات وصل إلى ذروته في القرن الثالث عشر الميلادي، فمن بين 652 مخطوطة باللغة العربية وجد ان 332 منها تعود لذلك القرن، ومع ذلك يرى المؤلف أننا لا نستطيع النظر إلى المجموعتين العربية والعثمانية بمعزل عن المجموعات الأخرى المحفوظة في مكتبة الدير، كما تشكل المصاحف CODUCX أهمية خاصة لعلماء الدين أو علماء الكتاب المقدس والتاريخ « الإكليركي Ecclesiastical وبقية فروع العلوم الإنسانية. تاريخ الدير مع الحكام المسلمين ويشير المؤلف إلى أن تاريخ الدير مع الحكام المسلمين كان غالباً لمصلحة الرهبان وحظي بمكانة مرموقة ومركز ممتاز، وليس أدل على ذلك من حرص نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) على أن يعطي للرهبان عهداً بالأمانة، وذلك منذ وطئت قدماه الكريمتان حدود سيناء في أيلة (إيلات) عند زيارته تبوك، وقد كانت مسألة عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) مثار خلافات بين المؤرخين الذين تصدوا لها في ما بين مؤيد للعهد وآخر ينفي هذا العهد جملة وتفصيلاً «فبازيلي» يؤكد مكافأة الرسول (صلى الله عليه وسلم) (أثناء زيارته الدير على حسن ضيافتهم له) ومنحهم هذا الأمان وقال عزيز سوريال عطية الرأي نفسه حين قال إنه مع إعطاء محمد (صلى الله عليه وسلم) توقيعه على العهد انضم إليه كل المسلمين المخلصين ليحموا الدير ورهبانه. وكذلك راينو يؤيد صحة هذا العهد ويسميه ب (العقد نامة) ويقول المستعرب الروسي بيرمنوف أن مطران سيناء قسطنديوس في كتابه عن مصر المطبوع في أربعينات القرن التاسع عشر الميلادي ذكر أن محمد (صلى الله عليه وسلم) رد جميل حسن الضيافة للرهبان بمنحهم سنة 624 في اليوم الثالث من محرم صك الأمان وأن النص كان محفوراً على جلد غزال بخط كوفي ممهوراً ببصمة يد محمد وتوقيع واحد وعشرين شاهداً، ومن المهم أن ننوه إلى أن الكنيسة الأرثوذكسية تذرعت بهذه الوثيقة سنة 1810 في نضالها لاستعادة حقوقها في ضريح السيد المسيح في القدس حيث قرأت بشكل احتفالي مهيب لإثبات حقوق وامتيازات أتباع المذهب الأرثوذكسي، ويرى المؤلف أنه لو ثبت حقاً أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أعطى هذا العهد فأنه أعطاه للمسيحيين جميعاً وليس لطائفة منهم، ومن ناحية أخرى، ينفي بعض المؤرخين صحة هذا الموضوع. وفي ضوء ذلك فإنه من المعتقد أن الرهبان لا يدّعون أن هذه العهدة هي الأصل الذي صدر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا صورة طبق الأصل بل إن العهدة التي بأيدينا تذكر أن الأصل أعطي في ثاني سني الهجرة والظاهر أنه ثامن لا ثاني سني الهجرة، ومثل هذا التحريف وارد لا سيما وأن النساخ كانوا من الأعاجم – وعلينا أن نتذكر أن رهبان الدير كانوا في غالبيتهم من الأروام وهم الذين يجيدون الكتابة – وأخيراً فإن عدم ذكر أحد المؤرخين للأصل لا يطعن بصحته وإن كان المقريزي في كتابه «القول الأبريزي» الذي جمعه مينا اسكندر ودوّن فيه ما يختص بالقبط مما كتبه المقريزي في خططه وطبعه في القاهرة سنة 1898، قد أورد نص هذا العهد ولا يستبعد المؤلف صحة هذا العهد أو صحة الأصل المفقود لأن هذا العهد لا يخرج في مضمونه عن مآثر ومعاني الإسلام السمحة، كما أن المؤلف ابن سعد يذكر أن الرسول أرسل كتاباً في السنة السابعة من الهجرة إلى ضفاطر الأسقف يدعوه إلى الإسلام ونحن لا نعرف بالضبط إذا كان هذا الأسقف هو أسقف دير سانت كاترين أو أي رئيس ديني آخر، ومن المرجح أن يكون رهبان سيناء قد طلبوا تأكيد الأمان والعهد من عمرو بن العاص بعد أن اجتاز رفح أو حدود مصر الشرقية، ويبدو أن طائفة الأرمن في القدس يوجد لديهم عهد آخر يزعمون أنه لمصلحتهم من قبل النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وإن كنا نعتقد أنه وضع خصيصاً لحماية مصالح الطائفة ويلاحظ حنا النقيوس أنه منذ فتح العرب مصر أسلم كثير من المصريين بل أن بعضهم تعاونوا مع العرب بعد إسلامهم أو قبل ذلك مثل يوحنا أحد رهبان دير سانت كاترين، وعموماً كانت طبيعة العلاقات بين حكام مصر الإسلامية ورهبان الدير علاقة تعاطف ورعاية في الغالب. وتحتفظ المكتبة بعدد كبير من المراسيم والتوقيعات الصادرة من حكام مصر بدءاً من العصر الفاطمي وحتى العصر المملوكي وغالبيتها تطلب من موظفي الدولة من بندر الطور وغيره من المدن والثغور في مصر والشام تقديم كل التسهيلات اللازمة للرهبان وتأمينهم في سفرهم بين أجزاء البلاد وفي خارجها، وإعفاء الدير من أنواع الضرائب كافة. ويلاحظ أن المراسيم التي أصدرها حكام مصر لمصلحة الرهبان كانت مستمدة روحاً وفي بعض الأحيان نصاً من عهد عمر بن الخطاب «العهدة العمرية» الذي يعتقد بعض الفقهاء والمؤرخين منذ القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي أنه القانون الذي يحدد العلاقة بين المسلمين وأهل الذمة، وبالتالي أصبحت الشروط العمرية نواة لكتب فقهية، كذلك كتب الحسبة، حتى إننا نجد المقريزي ينشر عهد عمر مع صفرونيوس بطريرك الملكية في طور الزيتون (طور سيناء) والذي مقامه القدس في 20 ربيع الأول 515 ويسميه «عهد الإمام الخليفة عمر بن الخطاب» والذي يتجلى فيه حرصه الشديد على حريات أهل الذمة وحمايتهم واحترام مقدساتهم ووجوب معاملة الذميين بالحسنى. وفي الغالب كان الحكام المسلمون لا يأخذون جزية من الرهبان غير أن حكام مصر لجأوا إليها في بعض الفترات لأسباب متفاوتة، فعبد العزيز بن مروان مثلاً لجأ إلى فرض الجزية لاحتياجه الشديد للمال حيث كان مهتماً بتعمير مصر فجدد بناء مسجد عمرو بن العاص وزاد فيه، كما بنيت كنائس كثيرة في عهده وكانت مصر مشتركة بجانب الخلافة الأموية في القضاء على ثورة عبد الله بن الزبير. ويدين التراث المسيحي في مصر والعالم للعرب المسلمين لحفاظهم على أيقونات الدير سليمة مصانة في الوقت الذي تعرضت بقية الأديرة والكنائس في العالم المسيحي الأوروبي والآسيوي لحركة محطمي الأيقونات التي قام بها الإمبراطور البيزنطي ليو الثالث الإيسوري (717 – 740) حيث إن مصر، وبالتالي سيناء، كانت خاضعة للحكم العربي الإسلامي. ولم تسلب حرية الرهبان تحت الحكم الإسلامي فكان لهم حق الاعتراض حتى أمام الخليفة ضد الغبن الواقع عليهم، مثلما حدث سنة 312 عندما كانت مصر تابعة لحكم الخلافة العباسية. أن أخذ الرهبان والأساقفة بأداء الجزية فأخذت منهم ومن الضعفاء والمساكين ومن كل الديارات بأسفل مصر والصعيد من رهبان طور سيناء ومن ثم فقد سافر وفد من هؤلاء الرهبان الى بغداد حاضرة الخلافة للاستغاثة بالخليفة المقتدر، فكتب لهم بألا تؤخذ الجزية من الرهبان ولا من الأساقفة. وإن كان دير سانت كاترين لم يحظ بالكثير من عناية الدولتين الأموية والعباسية إلا أنه كان موفور الحظ في عهد الدولة الفاطمية على عكس الوضع بالنسبة إلى الخلافتين الأموية والعباسية، وتكشف الوثائق الديرية طبيعة العلاقات زمن حكم الفاطميين مصر، إذ عومل الدير ورهبانه بكل مودة واحترام فهناك مرسوم فاطمي يعلمنا بأن أسقف دير سيناء نيفرى يلتمس من الخليفة الفاطمي الأمر بإصدار الأمر برعايته ورهبان الدير، وبالفعل صدر المنشور من ديوان الإنشاء «بمضاعفة الإحسان إليهم ومتابعة الإنعام عليهم وبتوفير حظوظهم من الرعاية والاحترام ونصيبهم من العناية والحماية (كذا) الشامل والإنصاف الكامل...». وقد جدد صلاح الدين ما كان يقوم به الخلفاء الفاطميون من رعاية الرهبان المنقطعين للعبادة في دير سانت كاترين، وتبعه في ذلك أخوه الملك العادل سيف الدين أبو بكر، إذ توجد وثيقة صادرة منه إلى رهبان الدير هدد فيها من يتعرض لهم بضرر أو أذى بأشد العقاب، وفي وثيقة أخرى نراه يأمر صاحب قلعة آيلة بالامتثال لما جاء في منشوره. ومن ناحية أخرى لا نستطيع أن نغفل الدور الذي قام به الرهبان أثناء الحروب الصليبية على الشرق، إذ إنهم رفضوا استضافة الملك بلدوين الأول ملك بيت المقدس، ورفضوا طلبه المبيت ليلة في الدير أثناء حملته الاستطلاعية في شبه جزيرة سيناء سنة 1116. العصر المملوكي وإذ انتقلنا إلى العصر المملوكي نجد أن الدير كان من بين المزارات المقدسة الرئيسية والمهمة التي يحج إليها المسيحيون الأوروبيون، أما بخصوص طبيعة العلاقات مع الحكم الجديد فيرى أحد الباحثين أن المصادر لا تشير صراحة إلى طبيعة العلاقة بين السلطات الإسلامية في عهد دولة المماليك وبين رهبان طور سيناء، وأرجع ذلك إلى أن أولئك الرهبان كانوا يمثلون أقلية داخل المجتمع المصري عموماً وفئة ضئيلة من أهل الذمة خصوصاً، كما أنهم عاشوا في منطقة نائية في صحراء بعيدة من مركز الحكم المملوكي، ثم نراه يتراجع بقوله إن المراسلات التي صدرت في عهد السلطان سيف الدين قلاوون لرهبان الدير تسد فراغاً أغفلته المصادر التاريخية. ويبدو أن رأي الباحث لم يجانبه التوفيق تماماً، فالوثائق المحفوظة في الدير، وكذلك الوثائق الأخرى المحفوظة في ثنايا المصادر التاريخية المعاصرة، تؤكد أنه كانت هناك علاقة متينة وقوية ومستمرة بين الطرفين حكاماً ومحكومين. فعلى مسؤولية إحدى الوثائق أن السلطان خليل بن قلاوون أمر النواب والولاة في مصر والشام برعاية الرهبان مع إعفائهم من المغارم. كما أن السلطان قايتباي وقف إلى جانب الدير أمام القوى الأجنبية الطامعة في بسط سلطتها الدينية والدنيوية عليه. ويلاحظ أن محفوظات الدير تبدأ كاملة من القرن الثالث عشر وتستمر في القرن الرابع عشر، وكان القرن الثالث عشر هو العلامة الفارقة والمميزة للإنتاج الأدبي للرهبان المتحدثين بالعربية، فمن بين 602 مخطوطة بالعربية يوجد 332 مخطوطة من هذا القرن ثم يقل العدد بعض الشيء وإن كان هذا الانحدار يستحق منا التوقف لبرهة لكي نكشف العوامل التاريخية المسببة لذلك فالقرن الثالث عشر كان بداية سقوط الخلافة العباسية ونظراً إلى حال عدم النظام والأمن التي صاحبت الغزوات المغولية لبلاد الشرق أصبح دير سانت كاترين ملاذاً جيدا لهؤلاء المسيحيين المتحدثين بالعربية، ومن ثم فقد ارتفع عدد المخطوطات، وكذلك نتاجهم الأدبي الى مستوى غير عادي، ومع عودة السلام الى ربوع الإمبراطورية العربية الإسلامية بعد اندحار الغزو المغولي قل عدد الرهبان العرب المقيمين داخل أسوار الدير إلى أن اختفوا نهائياً منه مع مطلع العصور الحديثة وبالتالي قلت أعداد المخطوطات العربية المحفوظة في الدير. ومن الأمثلة التي توضح العطف على الرهبان وأتباع الدير من قبل الدولة والأفراد العاديين تلك الوثيقة التي يرصد فيها السلطان الأشرف شعبان بن حسين (1362 – 1367) الى خدام ورهبان الدير 31 شجرة زيتون، كما توجد بمكتبة الدير وثيقة وقف باسم المعلم سليمان بن بشارة بن فهد النصراني الجابي تنص على أن يصرف ربع الوقف «للفقراء والمساكين من النصارى المقيمين في القدس الشريف والواردين إليه فإن تعذر صرف للفقراء والمساكين من المسلمين أينما وجدوا». كما تبين الوثائق أن مسائل المواريث كانت تتم بحسب الشريعة الإسلامية وأن أمورهم كانت تعود على ملتهم إذا لم يكن للمتوفى وريث ويتضح من بعض الوثائق أنه في بعض الأحيان كان الشهود على هذه التصرفات القانونية من المسلمين وفي أحيان أخرى كان بعضهم من الذميين حيث الشهود جميعاً مسيحيين ويستفاد من إحدى الوثائق أنه إذا اشترى أحد أبناء الأقليات الدينية داراً تعلو على دور جيرانه المسلمين كان من حقه أن يحتفظ بها من دون أن يهدم الجزء العلوي الذي يتيح له كشف عورات جيرانه. وقد حظيت أوقاف رهبان دير جبل سيناء في مصر وخارجها برعاية حكام مصر وسلاطينها تماماً كأوقاف المسلمين حيث تدلنا على ذلك المراسيم التي أصدروها لمصلحة رهبان دير طور سيناء والتي تنص صراحة على ألا يتعرض أحد لأوقافهم وبمساعدتهم على رعايتها. وفي ختام دراسته دعا المؤلف إلى إخراج كتالوج صحيح يحتوي على مخطوطات ووثائق الدير المكتشفة في سنوات السبعينات والثمانينات أو ترجمة الكتالوغ الذي صدر عن هيئة البحث العلمي اليوناني إلى اللغة العربية، وكذلك دراسة النقوش الموجودة على جدران الدير بلغاتها المختلفة وأكوام النصوص والأعمال الفنية كالموازييك البيزنطية والمجموعة النادرة من الأيقونات والأعمال الخشبية والحفر على الحجر البيزنطي والتي يندر وجودها في العالم.