لم تمنع سخونةُ الأحداث السياسية التي تشهدها المنطقة، الجمهورَ السوري من التوافد الى صالتي «الكندي» و «الزهراء» وسط دمشق لمتابعة فعاليات الدورة الرابعة من مهرجان «أيام سينما الواقع» الذي تنظمه شركة «برو آكش فيلم»، بدعم من المؤسسة العامة للسينما السورية، والعديد من الجهات والهيئات والمنظمات التي تضع في اعتبارها الاهتمام بالسينما. ويبدو إطلاق صفة «مهرجان» فضفاضاً، هنا، ليس على محتوى المهرجان وفعالياته المختلفة، بل على طابعه البسيط؛ الهادئ الذي يخلو من أية مظاهر احتفالية باذخة كتلك التي نراها في غالبية مهرجانات السينما في العالم العربي. «أيام سينما الواقع» هو فعالية خاصة تنأى عن كل ما هو رسمي، دعائي وسياحي، لتقترب من روح ومزاج السينما التسجيلية التي تحتفي بها؛ تلك السينما التي لا تعرض في الصالات التجارية، وهي، في الآن ذاته، «منبوذه» من قبل أهل النخب السينمائية الذين يسخرونها ك «وسيلة» سهلة للوصول الى الغاية الثمينة المتمثلة في السينما الروائية الطويلة حيث النجومية والشهرة والتكريم وفرص النجاح التي لا تحصى. إن هذا التصور، على رغم شيوعه، ليس دقيقاً، فثمة أفلام تسجيلية تضاهي في أهميتها وأسلوبيتها وطريقة إنجازها العديد من الأفلام الروائية، والعكس صحيح بالطبع، بل ثمة من اقتصر مشروعه على السينما التسجيلية ليحقق نجاحات لافتة، ولعل المثال الأقرب هو المخرج السوري عمر اميرلاي (1944 1911) الذي رحل في الخامس من شهر شباط (فبراير) الماضي. ولأنه كان أحد أبرز المؤيدين والناشطين لهذا المهرجان، وبوصفه من أشد المخلصين للسينما التسجيلية، فقد أجرى المنظمون تعديلاً على البرنامج، في اللحظات الأخيرة، كي يشمل عرض ثلاثة أفلام للراحل وهي «الحب الموؤود»، و «عن ثورة»، و «نور وظلال» (الأخير إخراج مشترك)، من بين نحو عشرين فيلماً حققها الراحل الذي تردد اسمه مراراً على ألسنة المشاركين لدرجة بدت سطوة حضوره أقوى من قسوة الغياب. هذا التعديل ما كان ليحظى بكل التقدير الذي حظي به لولا أن أفلام اميرلاي ممنوعة في بلده. تنوع كلمات قليلة ارتجلها مدير المهرجان عروة النيربية، بخفة ومرح، مساء الثاني من الشهر الجاري ليؤذن بانطلاقة المهرجان بفيلم الافتتاح الصيني «القطار الأخير الى المنزل». بين هذا الفيلم وفيلم الختام الألماني «تصبح على خير يا لا أحد»، عرض نحو 45 فيلماً جرى اختيارها من بين أكثر من 600 فيلم تقدم أصحابها للمشاركة. توزعت الأفلام إلى عدة تظاهرات، لعل أهمها تظاهرة «المختارات الدولية» التي تضمن 17 فيلماً تنافس على جائزة الجمهور الذي يبدي رأيه في العرض من خلال قسيمة فور خروجه من الصالة. ومن بين أبرز أفلام هذه التظاهرة فيلم «أبي من حيفا» للفلسطيني عمر الشرقاوي، و «صداع» للفلسطيني رائد انضوني، واللبناني «مملكة النساء» لدانا أبو رحمة، و «ظلال» لماريان خوري، و «تيتة ألف مرة» للبناني محمود قعبور، والبريطاني «الآربر» لكليو بارنارد، و «كاتكا» للتشكية هيلينا تريشتيكوفا... وغيرها. وضمن تظاهرة «أصوات من سورية» تنافس ستة أفلام لنيل الجائزة الثانية الخاصة بالمخرجين السوريين، والأفلام هي «راقصون وجدران» لاياس المقداد، و «سقف دمشق وحكايات الجنة» لسؤدد كعدان، و «الشعراني» لحازم الحموي، و «صفقة مع السرطان» لأديب الصفدي، و «في انتظار أبو زيد» لمحمد علي اتاسي، و «مدينة الفراغ» لعلي الشيخ خضر. وشهد المهرجان تظاهرتين موازيتين عرضتا أفلاماً حول مواضيع اجتماعية، الأولى بعنوان «في البحث عن حياة أفضل»، والثانية بعنوان «عن الرجال»، أما تظاهرة «روائع المهرجانات» فتضمن أربعة أفلام احتلت مراكز متقدمة في مهرجانات دولية مرموقة مثل الفيلم الدانماركي «ارماديللو» ليانوس ميتس، والإيطالي «شعر هندي» لماركو ليوباردي، والروماني «العالم بحسب يون ب «لالكسندر ناناو، والبولوني «كيمو» لبافل لوزينسكي، وأضاف المنظمون في هذه الدورة تظاهرة جديدة بعنوان «إنه عالمي» للاحتفاء بسينما اليافعين بهدف ضم أفراد جدد إلى دائرة أصدقاء أيام سينما الواقع كي يتعرفوا إلى السينما التسجيلية. ودأب المهرجان على استضافة مخرجين من أشهر صانعي الأفلام التسجيلية في العالم، إذ حلت السينمائية التسجيلية البريطانية كيم لونجينوتو ضيفة على مهرجان سينما الواقع في هذه الدورة حيث عرض لها أربعة افلام بينها فيلمها الشهير «ساري زهري» الذي نال جائزة اللؤلؤة السوداء في دورة مهرجان أبو ظبي السينمائي الأخير. وتعد لونجينوتو سينمائية تسجيلية معروفة، اشتهرت بأفلام ذات لغة سينمائية رصينة غالباً ما قاربت واقع المرأة والقاصرين في مجتمعات مختلفة حول العالم. حصلت جميع أفلامها، وتبلغ نحو عشرين فيلماً، على تقدير دولي كبير وعلى جوائز من مختلف المهرجانات السينمائية. هذه الأفلام وورشات العمل والدورات التدريبية، وامتداد عروض المهرجان إلى مدن حمص وطرطوس وحلب، وإتاحة الفرص لتبادل المعارف والخبرات ضمن لقاءات تخصصية تمتد على أيام المهرجان، ودخول العروض في شكل مجاني... كل ذلك وغيره جعل من مهرجان أيام سينما الواقع، وقد بلغ سنته الرابعة، نشاطاً سينمائياً يصعب إغفال دوره في إعادة بعض الألق الى النشاط السينمائي في بلد تعاني فيه السينما ركوداً وإهمالاً إن لجهة الإنتاج (فيلمان في السنة) أو لجهة الصالات أو حتى الجمهور الذي لم يعد ارتياد الصالة من أولوياته. ومع ان المهرجان يحظى بتأييد ومساندة عشاق السينما والكثير من السينمائيين السوريين غير أن ثمة من ينظر بريبة إلى رعاية المؤسسة العامة للسينما له، كما ذهب المخرج السوري محمد ملص، ذلك أن هذا الأمر، في رأي المرتابين، قد يفقده الاستقلالية التي يتباهى بها هذا المهرجان الذي بات تقليداً سنوياً يشهده الثلث الأول من آذار (مارس). وما يعزز مثل هذه الهواجس هو أن منظمي المهرجان، كما علمت «الحياة»، رفضوا مشاركة فيلم «آي دل» الناطق بالكردية للمخرج السوري زياد كلثوم. الفيلم الذي يعني عنوانه بالعربية «أيها القلب» يتناول هموم مجموعة من النسوة في الشمال السوري يتحدثن بلغة لا يتقنّ سواها، وهي الكردية، وعلى رغم خلو الفيلم من البعد السياسي لكن حساسية المسألة الكردية، كما رأى بعض التقارير، حالت دون إدراجه ضمن التظاهرات، لكن مدير المهرجان يقول ان «ثمة أفلاماً كثيرة لم تحظ بفرصية المشاركة، لا لأسباب رقابية، بل لاعتبارات وعوامل أخرى كثيرة». الجوائز لسورية ولبنان وفلسطين في حفل الختام للمهرجان اول من امس الاربعاء فاز الفيلم السوري «في انتظار أبو زيد» لمحمد علي أتاسي بجائزة أفضل فيلم تسجيلي سوري فيما فاز الفيلم اللبناني «تيتة ألف مرة» للمخرج اللبناني محمود قعبور بجائزة الجمهور الأولى. أما جائزة الجمهور الثانية فذهبت الى فيلم «أبي من حيفا» للمخرج عمر الشرقاوي، فيما ذهبت الثالثة لفيلم «مملكة النساء، عين الحلوة» من إخراج الفلسطينية دانا أبو رحمة.