في إسبانيا وتشيلي حدث تحوّلان ثوريّان كبيران من دون ثورات. في الأولى، وفي مجرّد وفاة فرانكو، عام 1975، انتقل البلد إلى الديموقراطيّة بقيادة أحزابه التي عارضت، قرابة أربعة عقود، الديكتاتور الراحل. وبين الأحزاب، لعب الاشتراكيّ أبرز الأدوار، فكان قائده فيليبي غونزاليس الرمز الأبرز للتحّول الديموقراطيّ. لكنْ كان هناك ثمنان: السماح للحزب الفرنكويّ بالبقاء وممارسة النشاط بعد تحوّله حزباً برلمانيّاً فعليّاً، والموافقة على بقاء المَلكيّة (وكان فرانكو وصيّاً عليها) شرط تحوّلها مَلكيّة دستوريّة. ومعروفٌ أنّ الأحزاب التي أنشأت الديموقراطيّة سبق أن خاضت كلّها حرب الجمهوريّة ضدّ المَلكيّة في 1936-39. واليوم يحكم الاشتراكيّون، بزعامة خوسيه زاباتيرو، إسبانيا. في تشيلي، تأدّى عن استفتاء 1988 الذي فرضه الضغطان الداخليّ والخارجيّ إطاحة ديكتاتوريّة بينوشيه العسكريّة التي قامت على أثر انقلاب 1973. أمّا الثمن الذي كان على الديموقراطيّين دفعه فكان أكبر من مثيله الاسبانيّ: ترك الجيش في عهدة الديكتاتور طوال عقد كامل. لكنْ في هذه السنة يُحتفل بمرور خمس سنوات على رحيل بينوشيه، فيما تشيلي تحكمها ديموقراطيّة مستقرّة ويرأس جمهوريّتها سيباستيان بينيرا أحد المنشقّين عن بينوشيه، بعد تولّي الرئاسة سيّدة اشتراكيّة هي ميشيل باشيليه. إسبانيا وتشيلي استطاعتا فعل ما فعلتاه وتجنّب الدم لأنّ مجتمعيهما كانا مؤهّلين للتغيير، وهي الأهليّة التي برهن التوانسة والمصريّون، حتّى الآن، أنّهم يملكونها. بعد ذاك، في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، كانت الثورات العظمى واللاعنفيّة لأوروبا الوسطى والشرقيّة، فأعادت الاعتبار إلى كلمة «ثورة»، وأكّدت أنّها مرآة مجتمع، لا مرآة اغتيابه والنيابة عنه على رغمه. هكذا نشأت ديموقراطيّات صاحبها الإبقاء على الأحزاب الشيوعيّة التي تحوّلت، هي الأخرى، أحزاباً برلمانيّة. لكنّ التجارب التاريخيّة لا توحي كلّها بمثل هذه الأهليّة. في روسيا في 1917 لم يحتمل المجتمع الحلّ الديموقراطيّ الذي رمز إليه كيرنسكي، الاشتراكيّ المعتدل والبرلمانيّ البارز، وكانت الحرب تضغط في اتّجاه حلّ حاسم أتى به البلاشفة فأنشأوا أحد أعظم أنظمة الاستبداد في التاريخ. وفي 1979، لم يحتمل المجتمع الإيرانيّ الحلّ الديموقراطيّ الذي رمز إليه شهبور بختيار، سليل «الجبهة القوميّة» لمحمّد مصدّق وسليل سجون الشاه. هكذا سقطت إيران في قبضة الخمينيّة. هذا لا يلغي أنّ الأنظمة حين تسقط شعبيّاً، يكون سقوطها ضرورة أخلاقيّة وسياسيّة واقتصاديّة. والأمثلة، هنا، تمتدّ، على تفاوت، من القيصريّة الروسيّة إلى الشاهنشاهيّة الإيرانيّة، انتهاء بنظام القذّافي. بيد أنّ الاقتصار في النظر على ثنائيّة النظام والمعارضة، من دون الالتفات إلى المجتمع والتاريخ، ينطوي على تبسيط كثير. فأمثلة اسبانيا وتشيلي وأوروبا الوسطى والشرقيّة تقول إنّ تقدّم المجتمع فرض على السلطات المستبدّة درجة من التقدّم في الردّ، أو أنّه قلّل عنفها وقنّنه. كذلك ترافقت ديموقراطيّاتها الناشئة مع أخذ وردّ كثيرين حالا دون القطيعة المبرمة مع الماضي ودون التجذير الذي لا نهاية له. وهذه، هي الأخرى، من علامات التمدّن. وأمّا التغييرات التي لم يحتملها مجتمعا روسيا في 1917 وإيران في 1979، دافعة بهما نحو الدم والاستبداد، فقد يكون معادلها عندنا تغييرات في خرائط البلدان التي لا تحتمل مجتمعاتها التغيير الديموقراطيّ. هذا ما قد يحصل لأنّه قد يكون محتّم الحصول. المهمّ أن ندرك أنّ احتمالات كهذه ممكنة وأن نكون مهيّأين لها، ولا بأس، بعد ذلك، بالقول: لمَ لا؟