لا شك في ان المعاينة الدقيقة للحالات العربية التي أنجزت فيها الثورة، من شأنها تفكيك المقولات التي أطرت الثورات ضمن اشتراطات معينة، وجعلت حصولها دون تحقيق تلك الاشتراطات أمراً غير ممكن، إن لم يكن مستحيلاً. والواضح انه باستثناء الحالة المصرية التي قاربت، بعض الشيء، تلك الاشتراطات، فإن الحالتين التونسية والليبية بدتا بعيدتين عن التصور الكلاسيكي. صحيح أن المدنية في الحالة التونسية تحققت في شكل كبير، وبخاصة في العاصمة والشمال، لكن الحقيقة المؤكدة أن الهوامش التونسية، التي تفتقر في شكل لا لبس فيه الى التحديث والمدنية، هي التي شكلت الرافعة الأساسية للثورة. وسيتضح مستقبلاً أن هذه الهوامش ستخوض الأيام الأصعب والتي ستكون مؤسِّسة للثورات العربية القادمة. أما الحالة الليبية، فلا شك في أنها انطوت على مفاجأة كبيرة ولم يكن في الإمكان توقعها. فالتصاميم التي تضعها غالبية نظريات الثورات، لا تنطبق عليها بتاتاً. ذلك أن ليبيا في التصنيفات السياسية بقيت عند توصيف المستشرق جاك بيرك في الخمسينات «مجتمعاً قبلياً، متناثراً على مساحة واسعة، تشبه جلد النمر». وبالتالي يسهل إخضاعها، كما تنعدم إمكانية تحديثها. ما لم يلحظه أي من التقديرات والتنبؤات السياسية هو ذلك المتغير المهم الحاصل على مستوى المنظومة القيمية العربية، وبخاصة لدى الأجيال الطالعة التي نشأت على قيم العولمة والأنماط التي طرحتها وشكلت بدورها المعول الذي هدم المنظومة القديمة. ولعل الفترة الفاصلة بين ظهور العولمة وقيام الثورات العربية، هي المجال الذي يتوجب دراسته وتحليله، إذ في هذه المرحلة تحديداً تشكلت جذور وبذور التغيير، وهي التي هضمت فيها الأجيال الجديدة هذا المتغير، وخلالها عاينت كل المقولات والأيديولوجيات المطروحة في الواقع العربي، وكشفت حجم الوهن الذي يكتنفها، فضلاً عن كاريكاتورية النخب والزعامات التي تتسيد المشهد، وأن منظومة القيم السائدة ومجموعات النخب المتسيّدة وصفة أكيدة لموت مستقبلي وسريري أيضاً. صحيح أن الأجيال لم تمتلك تصوراً واحداً عن المستقبل، إلا أن الحاصل أن الفضاء العولمي سمح لكل فرد بتكوين تصورات سياسية عن الحرية والرخاء وأنماط المعيشة، تتلاقى جميعاً في الحدود الدنيا، الأمر الذي جعل صدى التغيير والثورة يتردد في الوجدان العام في لحظة واحدة. والآن باتت الثورات العربية واقعاً، ولا بد من إعادة قراءة الواقع وتحليله بناءً على معطيات جديدة. فهناك هدير في العالم العربي يهز القديم والثوابت. * كاتب فلسطيني.