بعدما حقّق الذكاء الاصطناعي قفزة نوعية كبرى نقلته إلى مرحلة الإبداع في تأليف الألحان الموسيقيّة وتوزيعها (أنظر «الحياة» في 1 أيلول/سبتمبر 2017)، تذهب أفكار بعض متابعيه إلى حقل آخر: الملاعب الخضر لكرة القدم. ومن غير قصد على الأرجح، قد تضيف الأرقام الملتهبة لانتقالات اللاعبين (صفقة نيمار الأسطوريّة بقرابة 265 مليون دولار) بعض «الحرارة» إلى ذلك الحلم المؤتمت. هل من شيء يدفئ مسار تحقيق أحلام البشر أكثر من المال، خصوصاً عندما يتدفق سيولاً تفوق الخيال؟ في «المعرض الدولي للروبوت 2017- بكين»، رأت الأعين إنساناً آليّاً إسمه «تيوترونيكا» يعزف بحرارة معزوفة للموسيقار الشهير أماديوس موتسارت. هل نشهد قريباً روبوت يقلّد حركات ميسي أو نيمار في كرة القدم؟ قبل حساب الوقت اللازم لتلك المشهديّة الفانتازيّة، ربما يجدر التفكر بشيء من الواقعية. لنتذكر أنّ الذكاء الاصطناعي أطلق حلماً كرويّاً مهمّاً في الهزيع الأخير من القرن العشرين، وبعد مرور قرابة أربعة عقود على ظهور ذلك الذكاء بفضل جهود علماء يتقدّمهم البريطاني الراحل الآن تورينغ (1912- 1954). وصيغت ترسيمة ذلك الحلم بالكلمات التالية: «في منتصف القرن 21، يفوز فريق من الروبوتات المؤتمة كليّاً على حامل كأس العالم لكرة القدم، في مباراة تجري وفق قواعد ال «فيفا» ونظمها». وتقابل الكلمات أعين من يدخل موقع «روبوكاب. أورغ» robocup.org. بدأ الحلم يتحقّق عام 1997، الذي يشار إليه بحجر أبيض ضخم في تاريخ تطوّر الروبوت والذكاء الاصطناعي. في تلك السنة عينها، استطاع الذكاء الاصطناعي التفوّق على البشر في الشطرنج، عبر تفوّق الكومبيوتر «ديب بلو» على بطل الشطرنج الأسطورة الروسي غاري كاسباروف، بعد مباراة أذهلت العالم. في العام ذاته، مشى الروبوت على سطح المريخ، محرزاً قصب السبق على الجنس البشري، بل محقّقاً هدفاً صعُبَ على البشر دحره. ومع مشي الروبوت- السيّارة «باثفايندر» على المريخ في 1997 أيضاً، لعبت الآلات المؤتمتة مونديالها الأول في مدينة «ناغويا» اليابانية. ثم تتالت المسابقات المؤتمتة. وتقاطع مونديالا البشر والروبوت في الأعوام 1998 (فرنسا) و2002 (أجريت مسابقة «روبوكاب» في «فوكوكا» اليابانية، بالتزامن مع مونديال اليابان- كوريا)، و2006 (ألمانيا). بعدها، افترق البشر والآلات المؤتمتة عام 2010، فلعب الإنسان موندياله في جنوب أفريقيا، فيما أجري مونديال «روبوكاب» في سنغافورة. الكتابة بالأحلام... انتبه جيّداً: كل ما تقرأه بعد هذه الجملة هو محض خيال علمي، أو ربما محاولة للكتابة عن الآتي من الزمان بلغة أحلام اليقظة! وبعد ظهور أول أسطوانة موسيقيّة من تلحين الروبوت وغنائه في 2020، شحذت همم أصحاب الحلم الكروي للإنسان الآلي. وبفضل الإصرار، أعادوا التلازم بين مونديالي البشر والروبوت بطريقة طريفة. إذ أقنعوا أبطال كرة القدم للصالات بأنهم يستطيعون اللعب مع الروبوت، إذا ارتدوا بزّات تقيهم من الروبوت، الذي تطوّر أيضاً ليصبح في مثل وزن جسد بشري. ولعبت المباراة المشتركة الأولى بين البشر والروبوت في العام 2032. وآنذاك، هُزِمَت الآلات بقسوة، لكنها لم تستسلم. تحسّن سجلها تدريجياً، مع انتشار اللعب المشترك. ثم وصلت إلى المونديال المزدوج الأول بين البشر والروبوت في البرازيل في 2045. وقبل المباريات، استضافت باريس اجتماعاً وُصِفَ بأنّه تاريخي، لتنظيم ذلك المونديال. وعقب تداول ماراثوني استمر 18 ساعة ثابرت خلالها القهوة على ضخّ اليقظة في عيون متوتّرة، أسفر اللقاء المشترك بين 195 اتحاداً لكرة القدم وهيئة ال«فيفا»، عن اتفاق على التفاصيل المتعلقة بالمونديال «المزدوج» في البرازيل. والمفارقة أن معظم وقت التداول استُغرِق في نقاش غير منتظر عن ضرورة وقف مسابقة كرة القدم للآلات «روبوكاب» Robocup. وتبنّت الاتحادات الوطنيّة للدول المقترح بطريقة أربكت الإدارة العليا في ال «فيفا»، خصوصاً رئيسها الأرجنتيني ليونيل ميسي الذي بدا ميّالاً إلى عدم الربط بين الأمرين. كان مشهداً مثيراً أن تحمل روبوتات أكواب القهوة (وأن يظهر «أندادهم» البشر على الشاشات يقدّمون القهوة والسندويتشات في مقار الاتحادات الوطنية على امتداد 190 دولة)، أثناء اللقاء الباريسي المثير. واستضاف «متحف جورج بومبيدو» الاجتماع الاستثنائي بسبب تقدّم مستويات تجهيزاته في التواصل عبر الشبكات المتنوّعة، إضافة الى توسّط توقيت أوروبا منظومة الوقت عالميّاً، وربما بسبب الموقع المميّز الذي تمسك به «القارة العجوز» تلك اللعبة أيضاً. وكانت برودة ربيعية نديّة ترافق منتصف الليل في باريس، حين خرج ميسي مع بقية إدارة الفيفا، ليمشوا قرابة 5 دقائق، قبل أن يعودوا ليعلنوا موافقتهم الكاملة على طلب إيقاف «روبوكاب». وبابتسامة ذكّرت بوجهه عندما كان لاعباً أسطورة تتناقل حركاته شاشات التلفزة الفضائيّة، أوضح ميسي أن «إيقاف مسابقة مخصّصة للروبوت يؤشّر إلى مدى تمازج البشر معها. بإمكاني أن أرى استمراراً للمباريات الروبوت في المدراس والثانويات والجامعات، بل ربما على مستوى الدولة في بعض الأماكن. اعتقد أنها مستمرة في كونها رافداً للمتألقين من «اللاعب- الحديد»، وهي مساحة مفتوحة دوماً للتدريب الخاص بالروبوت». في سياق متّصل، أعرب عضو إدارة الفيفا الهولندي روبن فان بيرسي عن اعتقاده بأن الوقت لن يتأخر قبل أن يخاض المونديال المزدوج على ملاعب خضراء، فتكون بديلاً للعب في الصالات لهذا النوع من المسابقات الرياضية. مجرد خيال وربما شيء من الأحلام أيضاً في سياق «مؤتمر باريس» التمهيدي للمونديال المشترك في البرازيل، تمنّى رجل الأعمال اللاتيني من أصل لبناني روبرتو حبيب منعم، أن يستمر البشر في تفوّقهم على الروبوت، كما يحصل في معظم المباريات المشتركة بينهما حاضراً. وأشار إلى أنّ أبناء الجاليات العربيّة أظهروا قدرة كبيرة في التأقلم مع شروط اللعب مع الروبوت، ما جعلهم مصدراً للاعبين متفوقين في ذلك النوع من الرياضة. وكذلك اغتنم سالم الحميد المموّل العربي البارز، المناسبة للتذكير بأن الشغف والإرادة والعزم، تبقى صفات مميّزة للاعب البشري، بل رأى فيها «السرّ الحقيقي لعدم قدرة الروبوت على التغلّب على البشر في اللعبة». وقبل اختتام اللقاء المنهك، تقدّم الاتحاد المصري لكرة القدم بطلب لاستضافة المونديال المقبل في بلاده، مذكّراً بسجلها القوي في استضافة المسابقات الدوليّة في كرة القدم، وتقدّمها في مجال البنية التحتيّة للآلات المؤتمة، إضافة إلى أنها من الدول التي تتصل مع شبكات التجمّعات الإقليمية وتلك العابرة لها، وكذلك شغف الجمهور القطري والعربي بالمباريات المشتركة بين البشر والروبوت. إذاً، بعد قرابة عقد ونصف من وصول «روبوكاب» إلى مباريات لآلات تماثل البشر في الحركة ووزناً، وصلت الآلات إلى مونديالها الأول مع البشر. وبعد سنوات من اللعب المشترك مع البشر، توقّف مونديال «روبوكاب» المخصّص لكرة قدم الروبوت. في الأصل، تصوّر منظّمو «روبوكاب» أن يصلوا إلى اللعب المشترك مع فرق بشرية عام 2050. وفي المقابل، تقدّمت الأردية الرياضية الذكيّة والمتينة، وهي منسوجة من أنابيب ال «نانوكربون» Nanocarbon التي باتت أساساً في صناعة هياكل معظم المركبات الآليّة، بل حتى الفضائيّة. بذا، تمكّن البشر من اللعب مع الروبوت، من دون خوف من الارتطام في هياكلها المعدنيّة القاسية. وبالتدريج، استعار لاعبو كرة القدم تصميم بذلات ال «بيسبول» وال «رغبي»، في صنع بذلات وخوذ وقفازات، كي تجعل ارتطامهم بالروبوت المندفع مأموناً، كأنه ارتطام مع جسد بشري. وسرعان ما انتشر اللعب المشترك بين البشر والآلة، وعزّزه انتشار لمسابقات الشطرنج المشتركة أيضاً، بعدما عاد الإنسان إلى التفوّق على الكومبيوتر فيها. ومع تبني الروبوت في أعمال يوميّة، كالتمريض والجراحة وحمل البضائع، وخدمة المقاهي والمطاعم، والعمل في ردهات الفنادق، صار «اللعب» يومياً بين البشر والروبوت. وليس ما سنشاهده في البرازيل بعد أقل من ثلاثة شهور، سوى استمرار لهذا اللعب اليومي المشترك!