فاجأ الشارع التونسي العالم بتحرك بدأ بحادثة فردية عابرة، سرعان ما تحولت إلى حراك شعبي بدأ طابعه اقتصادياً، نتيجة تردّي الاوضاع المعيشية وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، ثم تحوّل إلى حراك سياسي قوي أدّى إلى سقوط النظام الحاكم ورأسه خلال فترة قصيرة وفي شكل غير متوقع. وحصلت تلك التغيرات في وقت كانت المنظمات الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي والمنتدى الاقتصادي، تعتبر تونس مثالاً للإنجازات المختلفة. فالمنتدى الاقتصادي الدولي، في تقريره 2008/2009 عن تنافسية الدول على مستوى العالم، اعتبر تونس الاولى على مستوى افريقيا وال 36 على مستوى العالم، وبذلك جاءت متقدمة على دول مثل البرتغال وإيطاليا واليونان. كما اعتبر صندوق النقد أن تونس نجحت في تحقيق تنوع الاقتصاد الذي انعكس على ارتفاع معدلات الدخل الفردي وانخفاض نسبة السكان الذين هم تحت خط الفقر إلى 3.8 في المئة فقط (بحسب تقديرات 2005). كما اعتبر الصندوق برنامج الاصلاح الهيكلي الذي بدأته تونس في عام 1987 نموذجاً يحتذى به. وأعطى البنك الدولي تونس في تقريره السنوي عن ممارسة النشاط الاقتصادي في دول العالم للعام 2010 الدرجة 55 في العالم من حيث سهولة تأسيس المشاريع الاقتصادية وإدارتها. كما تعتبر هذه المؤسسات الاقتصاد التونسي من الاقتصادات القوية في الشرق الاوسط. إن هذا التناقض بين الانجازات التي تشيد بها المنظمات الدولية وبين حقيقة ما كان يجري في تونس، يثير سؤالاً مهماً حول الاختلاف الشديد بين معايير هذه المنظمات وحقيقة الوضع الاقتصادي كما يعيشه الناس، فأين يكمن الخطأ؟ تهتم المؤسسات الدولية عادة بالمؤشرات الاقتصادية الكلية، ما يدفع حكومات الدول النامية إلى الاهتمام بتلميع صورة هذه المؤشرات، فتنشغل عن احتساب الأولويات الاقتصادية لشعوبها في شكل صحيح. كما ان قدرات هذه الدول لم تنعكس سياسات اقتصادية واجتماعية تنموية تعتمد على الحاجة الحقيقية لاقتصاداتها، بل ظلّت مرتهنة اقتصادياً وسياسياً للدول الأوروبية المستعمرة لها سابقاً، خصوصاً فرنسا وبقية دول الاتحاد الأوروبي، وظل تفاعلها معها مبنياً على اعتماد اقتصادي وتجاري ساهم في إعادة اعتمادها السياسي عليها لكن في شكل مختلف عن السابق. وأهم صفات الاعتماد الاقتصادي، هو عدم التوازن في التجارة الخارجية، والاهتمام المتزايد بالصناعات المعتمدة في شكل رئيس على التصدير للدول المستعمرة سابقاً، والسياحة، والمشاريع المشتركة المخصصة للتصدير والتي تستثمر بها الدول المستعمرة سابقاً للاستفادة من رخص اليد العاملة، والامتيازات العديدة التي تمنحها الدولة المضيفة للاستثمارات الاجنبية مثل الاعفاء الضريبي، وتقديم الأراضي مجاناً وغيره. وهذا يخلق عدم توازن في العلاقات التجارية الخارجية تكون نتائجه غير عادلة للدول الصغيرة والضعيفة اقتصادياً. وتشجع الأوضاع الاقتصادية الصعبة لهذه الدول مستعمريها السابقين، بمساعدة بقية مؤسسات المجتمع الدولي والدول الكبيرة، على تطبيق نماذج جاهزة للديموقراطية الغربية عليها بهدف تحقيق مكاسب سياسية لها. وعندما تفشل هذه الوسائل في تحقيق السيطرة السياسية المطلوبة يتم استعمال الأساليب العسكرية لدعم النهج الديموقراطي المزعوم وتنصيب دكتاتوريات عسكرية وأمنية تظل تدعمها لسنوات طويلة وتغض النظر عن كافة أشكال القمع التي تمارسه ضد شعوبها والفساد ونهب الثروات الوطنية. وفي وقت منعت أسباب سياسية، كان بالإمكان حلها وتجاوزها منذ فترة طويلة، دول المغرب العربي من استغلال أي شكل من أشكال التكامل الاقتصادي بينها يساعدها على بناء اقتصادات متكاملة والحد من تأثرها بالتغيرات الخارجية، عرضت عليها كل الأساليب لتوثيق علاقاتها التجارية والاستثمارية مع فرنسا والاتحاد الأوروبي من خلال اتفاقات شراكة متميزة، حيث تصدر تونس أكثر من 69 في المئة من صادراتها إلى خمس دول أوروبية هي فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا والمملكة المتحدة (أرقام 2009) وتستورد منها أكثر من نصف وارداتها. كما تبنت تونس في العام 1993 قانوناً موّحداً للاستثمار لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر. ويعمل في تونس 1600 مشروع مشترك مع أوروبا لأغراض التصدير هدفها الاستفادة من العمالة التونسية الرخيصة، والإعفاءات الضريبية الكبيرة والقرب من الأسواق الأوروبية. ما كشف الاقتصاد التونسي كثيراً للتطورات الاقتصادية والسياسية في الاتحاد الأوربي. ولجأت الحكومة التونسية إلى زيادة الاعتماد على فرض الضرائب غير المباشرة لجمع إيرادات الخزينة، ما تسبب بوضع أعباء إضافية على الطبقات الفقيرة ومحدودي الدخل، لتتفاقم أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة في البلد. وبعد عقود من تدخل الدولة القوي في توجيه الاقتصاد والمساهمة في العملية الانتاجية، خصصت الحكومة التونسية منذ العام 1987 نحو 160 مشروعاً حكومياً. وعلى رغم محاولة التحرك بحذر مع مشاكل العاملين في هذه المؤسسات، استمرت البطالة تنخر في الاقتصاد التونسي وتتفاقم في ظل النمو السريع في اليد العاملة خصوصاً أن 55 في المئة من السكان هم دون ال 25 عاماً. وتتفاقم في العادة آثار البطالة كلما زادت درجة التحصيل العلمي بين العاطلين من العمل. وهذه هي إحدى نقاط الضعف المهمة في برامج المنظمات الدولية التي توصي بالتنمية الاجتماعية اولاً أي قبل التنمية الاقتصادية. فتحقق تنمية اجتماعية من خلال زيادة فرص التعليم على مستوياته المختلفة هو طموح كل الشعوب النامية، لكن الانفاق على التعليم مكلف جداً ولا بد أن يتم على حساب أولويات إنفاق أخرى. كما ان التعامل مع عاطلين من العمل من غير المتعلمين، أسهل بكثير خصوصاً في غياب شبكة ضمان اجتماعي خلال فترة البطالة. وهذا الفخ وقعت فيه تونس التي انفقت على مدى عقود الكثير على التعليم وموّلته بقروض خارجية ومساعدات دولية، لكنها لم تستثمر ما يكفي في القطاعات التي تخلق فرص عمل، فتركت الخريجين يبحثون عن عمل خارج بلدانهم او الانخراط في أعمال أقل من مستوى تحصيلهم العلمي خصوصاً أنها شجعت السياحة على بقية القطاعات. كما ان الطلب على هذا القطاع حساس جداً نظراً للتغيرات الخارجية. * كاتبة متخصصة في الشؤون الاقتصادية