منظر الساحة الرئيسية في قلب تيرانا (ساحة اسكندر بك) التي اتخذت مظهراً جديداً في الأيام الأخيرة بعد إلغاء الشوارع وتحويلها إلى ساحة مبلطة للمشاة والدراجات يعيد المرء حوالى ثلاثين سنة إلى الوراء، أي إلى أواخر الحكم الشيوعي حين كانت ألبانيا خالية من السيارات (باستثناء عدد محدود لقيادات الحزب الحاكم) ولا ترى فيها إلا باصات النقل العمومي والدراجات. اشتهرت الساحة التي بنيت فيها المباني الاشتراكية إلى جانب ما بقي من المدرسة العثمانية والإيطالية، بكونها شبه خالية من المواصلات مع وجود شرطي سير في الوسط. وقد روى لي البارحة وزير سابق نكتة متداولة من أيام الحكم الشيوعي تقول إن امرأة مسنة قطعت الساحة الخالية بينما الشرطي يصفر في الهواء، ولذلك نهرها لأنها تقطع الطريق وهو يصفر فقالت له: الطريق خال، فكرتُ انك تمارس هواية التصفير! ولأن تحويل الساحة من مكان مكتظ بحركة السيارات إلى ساحة مبلطة جاء عشية بدء الحملة لانتخاب البرلمان الجديد يوم الأحد 25 الجاري، فقد تحولت كغيرها إلى موضوع خلافي بين الأحزاب المتنافسة خلال الحملة الانتخابية، بين من يرى أنها تمثل حنيناً إلى الماضي يثير مشاكل سير في قلب العاصمة، وبين من يراها إنجازاً لسكان قلب العاصمة يعتبر متنفساً من التلوث والضجيج ومتعة المشي من دون خوف من السيارات المسرعة. تفتّت اليسار المفاجئ في العقدين الأخيرين سيطرت على الحياة السياسية ثلاثة أحزاب: اليمين ممثلاً ب «الحزب الديموقراطي» الذي قاده منذ تأسيسه الرئيس السابق صالح بريشا وتركه للشاب لولزيم باشا (وزير النقل والخارجية)، والحزب الاشتراكي برئاسة الفنان ادي راما الذي ترك بصماته الفنية حين كان رئيساً لبلدية تيرانا، و «الحركة الاشتراكية للاندماج» برئاسة إلير ميتا الذي انتخب أخيراً لرئاسة الجمهورية، إضافة إلى حوالى عشرة أحزاب أخرى منشقة عن هذه الأحزاب أو تمثل توجهات فكرية مغايرة (الحزب الشيوعي والحزب المسيحي الديموقراطي الخ) أو تمثل بعض الأقليات (اليونانية والتشامية الخ) أو لا تمثل ثقلاً انتخابياً ولكنها تفيد كأحزاب أقليات بمقعد أو مقعدين في الأزمات السياسية. ذلك أن أي حزب من الحزبين الرئيسيين (الحزب الديموقراطي والحزب الاشتراكي) لا يستطيع وحده أن يفوز بغالبية برلمانية، ومن هنا تبرز أهمية القوة الثالثة أو بيضة القبان (الحركة الاشتراكية للاندماج) مع الحاجة أحياناً إلى بعض أحزاب الأقليات. وقد تناوب على الحكم أخيراً الحزب الديموقراطي بتحالفه مع الحركة الاشتراكية خلال 2009-2013 ثم جاء الحزب الاشتراكي متحالفاً مع الحركة الاشتراكية خلال 2013-2017. في السنوات الأخيرة جرى الحديث عن «وحدة اليسار»، ولكن جرى الحديث أكثر عن ظهور «دولة المخدرات»، حتى أن ألبانيا أصبحت تشتهر باسم «كولومبيا الأوروبية». كان هذا يشكل لغزاً لأن حكومة «وحدة اليسار» جاءت إلى الحكم تحت شعار «القضاء على دولة المخدرات» التي أصبحت تدر 4.5 بليون يورو توازي نصف موازنة الحكومة، وأرسلت بالفعل قوات الشرطة والجيش إلى عاصمة هذه الدولة (لازارات) التي تقع جنوب العاصمة تيرانا لتخوض هناك «حرب الأيام الستة» خلال 16-21/6/2014 وتعلن عن نهاية هذه الدولة. ولكن التقارير والأرقام عادت من جديد لتدل على أن «دولة المخدرات» انبعثت بل اتسعت أكثر أثناء حكم «وحدة اليسار» حتى أن تقرير المفوضية الأوروبية في نهاية 2016 جاء صادماً في كشفه عن أن تجارة المخدرات أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد الألباني كونها تمثل 2.6 في المئة من الدخل القومي الألباني أي ما يوازي السياحة تقريباً. ويوضح وزير ألباني مطلع على الأمور، لا يفضل ذكر اسمه بطبيعة الحال، أن «دولة المخدرات» كانت مقتصرة على لازارات وجوارها بينما «أصبحت ألبانيا الآن كلها لازارات». ويوضح الوزير السابق أنه بعد اقتحام لازارات تحول سكانها إلى «خبراء» مطلوبين في كل أرجاء ألبانيا، وهو ما ساهم في انتشار زراعة الحشيش في كل مكان من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب عوضاً عن أن تكون في موقع واحد تحت المراقبة (لازارات). من المسؤول عن «دولة المخدرات»؟ اتسمت الحملة الانتخابية هذه المرة بالمهاترات بين الأحزاب الثلاثة المذكورة (الحزب الديموقراطي والحزب الاشتراكي والحركة الاشتراكية) التي تطالب جميعها ب «القضاء على دولة المخدرات»، وكأن هذه الدولة نشأت في الفضاء وليس على التراب الألباني برعاية مسؤولين كبار من كل الأطراف. وبرزت خلال الحملة فضائح ومهاترات غير مسبوقة. فقد سعى رئيس الحزب الديموقراطي الشاب لولزيم باشا عشية الحملة إلى زيارة مفاجئة إلى واشنطن وعاد بصورة له مع الرئيس دونالد ترامب، مما دفع السفارة الأميركية في تيرانا إلى التصريح أنه لا يوجد للولايات المتحدة «مرشح مفضل»، وأن المطلوب انتخابات نزيهة توصل للبرلمان نواباً يمثلون النزاهة. وتدخل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان علناً لمصلحة رئيس الحزب الاشتراكي ادي راما، في بلد يتميز بمقاومة يسارية- علمانية لما يريده أردوغان. وشهدت الحملة إقالة رئيس الوزراء ادي راما لنائب وزير الداخلية إلير ماركو (من الحركة الاشتراكية) بقرار مخالف للدستور، بتهمة أنه وضع جهاز تنصت في مكتب وزيره سمير طاهري (من الحزب الاشتراكي). وبعد أيام قام رئيس الحكومة بإعفاء وزيره سمير طاهري ونقله إلى الحملة الانتخابية بحجة الحاجة الماسة إليه. وفي الأيام الأخيرة للحملة الانتخابية انفجرت الفضيحة بعدما تبين أن جهاز التنصت في مكتب الوزير وضعته أجهزة أوروبية، وجهت إنذاراً إلى رئيس الحكومة بتغيير الوزير فوراً لأن التنصّت على مكالماته كشف عن تورطه في تجارة المخدرات. هذه الأوضاع أدت إلى أمرين سلبيين بالنسبة لليسار. الأول انشقاق داخلي ضمن الحزب الاشتراكي قاده الروائي الألباني المعروف بن بلوشي، الذي نشط سيراً على الأقدام بين الناس للترويج لحزبه الجديد «ليبرا». أما الثاني فهو التفسخ في الائتلاف اليساري الحاكم بين الحزب الاشتراكي والحركة الاشتراكية الذي وصل إلى حد الاتهامات والمهاترات. فقد قال رئيس الحزب الاشتراكي في حديث لرجال الشرطة بين المزاح والجد أنه يتوجب عليهم بعد انقضاء عملهم المشاركة في الانتخابات، وهو ما أدى بالحركة الاشتراكية إلى تقديم طلب رسمي للقضاء لإجراء فحص طبي لرئيس الحزب الاشتراكي بسبب الشك في اتزانه وإطلاقه تصريحات ومواقف مخالفة للدستور. وفي اليوم الأخير للحملة الانتخابية أعلنت الحركة الاشتراكية عن انفجار في مقرها الانتخابي في الشمال (دورس) واتهمت فوراً الحزب الاشتراكي بأنه وراء ذلك، بينما ردّ الحزب أن الانفجار مفتعل الخ. في هذا السياق أعلن مؤسس الحركة الاشتراكية إلير ميتا، الذي ترك رئاسة الحزب الآن بسبب انتخابه رئيساً للجمهورية بفضل أصوات الحزب الاشتراكي، أنه لن يوافق أبداً على أي تحالف حكومي مع الحزب الاشتراكي تاركاً الباب مفتوحاً لتحالف مع اليمين. لن ينجح أي حزب في الفوز بغالبية برلمانية، ولذلك تبقى الأنظار شاخصة إلى نسبة الأصوات والمقاعد التي ستحظى بها الحركة الاشتراكية لكي تستمر بدورها المرجح (ذو الثمن المرتفع) في تشكيل حكومة ائتلافية مع الحزب الأول أو الثاني في البرلمان الجديد. والمهم أن «دولة المخدرات» بخير طالما أنها ساهمت بدورها في تمويل الحملة الانتخابية بمسميات مختلفة مع أن الشعارات كانت دائماً تعد من اليمين واليسار ب «القضاء على دولة المخدرات».