كان المسؤولون في ألبانيا الشيوعية حتى 1990 يفتخرون أمام ضيوفهم الأجانب بأن تيرانا «أنظف عاصمة أوروبية» لكونها خالية تماماً من المخدرات ومن عوادم السيارات، لأن في الأصل لم تكن هناك سيارات في شوارع تيرانا سوى تلك القليلة التي تخصّ قيادات الحزب ومؤسسات الدولة. ولكن بعد ربع قرن، بدأ يشيع تعبير «كولومبيا الأوروبية» عن ألبانيا بعد أن ازدهرت زراعة الحشيش فيها وأصبحت تجارة المخدرات تشكل جزءاً مهماً من الدخل القومي، بغض النظر عن تعاقب اليمين واليسار على الحكم. ومن هنا جاء التقرير الأخير ل «الايروبول» الذي نشر قبل أيام ليصدم من لا يعرف أن ألبانيا أصبحت «المصدر الرئيس للحشيش في أوروبا». من الديكتاتورية إلى الحرية مع «ربيع أوروبا الشرقية» كان الألبان أكثر تشوقاً إلى الحرية لأن النظام الشيوعي فيها كان يمثل آخر قلعة للستالينية في أوروبا الشرقية مع حكم أنور خوجا الذي استمر من 1945 الى 1985، ولذلك، فما حدث في ألبانيا خلال 1990-1992 كان يمثل حالة لا مثيل لها: بداية الانتقال من النقيض إلى النقيض. فمع تشكيل أول حزب غير شيوعي (الحزب الديموقراطي) برئاسة صالح بريشا في نهاية 1990 ونجاحه في انتخابات ربيع 1992 انتقل الألبان من الديكتاتورية (التي كانت تحدّ من تحركاتهم حتى داخل بلادهم) إلى الديموقراطية التي وفرت لهم الحرية دونما حدود ليتميزوا مرة أخرى ويتحولوا من «آخر قلعة للستالينية في أوروبا» الى «كولومبيا الأوروبية». فنتيجة للكبت المتراكم من عقود، اندفع مئات الألوف من الألبان عبر الحدود إلى اليونان وايطاليا المجاورة، بعد أن كانوا محرومين من السفر (وحتى من جوازات السفر) لتخسر ألبانيا ربع سكانها خلال أول عقد من الديموقراطية. وخلال هذا العقد بدأت ألبانيا تتحول من تصدير الأيديولوجيا إلى تصدير الدعارة والمخدرات إلى أوروبا الغربية من خلال اليونان وإيطاليا المجاورة، وبدأت تتشكل «المافيا الألبانية» التي أصبحت مرعبة. وفي هذا السياق لم يعد يهم من يأتي إلى الحكم في الدولة المشهدية: الحزب الديموقراطي أو الحزب الاشتراكي (وريث الحزب الشيوعي) لأن كلاهما أصبح يقبل بوجود «الدولة العميقة» أو «الدولة الموازية» التي تسيطر عليها المافيا الألبانية. ومن هنا شاعت المقولة: في كل دولة هناك مافيات ولكن في ألبانيا الدولة نفسها هي مافيات. دولة لازارات و «حرب الأيام الستة» في البداية، كانت «ألبانيا الديموقراطية» دولة ممر لتجارة المخدرات التي تنطلق من أفغانستان وتصب في ايطاليا، لتنتقل من هناك إلى بقية أوروبا. ولكن بعد فوضى 1997 بدأت زراعة الحشيش تزدهر وتمركزت في قرية لازارات في الجنوب (230 كم جنوب تيرانا) التي تحولت مع الزمن إلى «دولة داخل دولة» بعد أن وصل إنتاج الحشيش فيها الى 850 طناً تدرّ في السنة 4,5 بليون يورو أي ما يوازي نصف موازنة الحكومة الألبانية وضعف الموازنة السنوية لجمهورية كوسوفو المجاورة. وفي الواقع، كان هذا التطور السريع ل «دولة لازارات» خلال حكم الحزب الديموقراطي برئاسة صالح بريشا خلال 2005-2013. ومع أن حكومة بريشا قدّمت في 2010 طلباً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إلا أن بروكسيل وضعت شروطاً كثيرة أمام تيرانا وعلى رأسها محاربة تجارة المخدرات والجريمة المنظمة في ألبانيا التي أصبحت تهدد الدول الأوروبية المجاورة. ومن هنا جاءت انتخابات حزيران(يونيو) 2013 لكي يدخل الحزب الاشتراكي المعارض برئاسة إدي راما في شعاراته الانتخابية «إسقاط حكومة المخدرات». ومع فوز الحزب الاشتراكي في هذه الانتخابات شنّ بعد شهور من الاستعداد «حرب الأيام الستة» (16-21 حزيران 2014) ضد «دولة لازارات» ليحصل على مكافأة من بروكسيل بمنح ألبانيا وضعية «دولة مرشحة» للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ولكن الشهور اللاحقة أثبتت أن الحكومة اليسارية ضربت المافيا التي كانت على صلة بالحزب الديموقراطي وأن تجارة المخدرات عادت إلى الازدهار مع المافيا التي أصبحت على صلة بالحزب الاشتراكي خلال سنوات 2014-2016. ويبدو ذلك مع ما تنشره الصحافة الإيطالية المعنية أكثر من غيرها (لتأثير ذلك في إيطاليا المجاورة لألبانيا) وتقارير المفوضية الأوروبية في 2016. ففي تشرين الأول (اكتوبر) 2016 شاع في الصحافة الايطالية وصف جديد لألبانيا هو «حشيش ستان» أو «بلاد الحشيش» بعد أن سلّمت الصحافة الايطالية بحقيقة أن تجارة المخدرات في ألبانيا هي التي «تبقي الاقتصاد على قيد الحياة» (جريدة «زيري» 23/10/2016). ولكن التقرير الصادم جاء من المفوضية الأوروبية بعد شهر حين كشف أن تجارة المخدرات في ألبانيا أصبحت تدرّ الآن ما يوازي 2,6 في المئة من الدخل القومي الإجمالي، أي يوازي ما تدرّه السياحة التي تعول عليها ألبانيا كثيراً في السنوات الأخيرة (جريدة «كوها» 27/11/2016). ومع نشر هذا التقرير الذي يفضح تواطؤ الحكومة اليسارية مع المافيا التي تقف وراء تجارة المخدرات، انتهزت قيادة الحزب المعارض (الديموقراطي) اقتراب الانتخابات البرلمانية في شهر حزيران المقبل لتقاطع البرلمان وتعسكر في خيم مقابل مبنى رئاسة الوزراء (على الطريقة اللبنانية) ليشنّ رئيس الحزب لولزيم باشا من هناك حرب تصريحات يومية ضد «حكومة المخدرات» التي يرأسها رئيس الحزب الاشتراكي إدي راما، ويدعو إلى تشكيل «حكومة تقنية» تشرف على الانتخابات المقبلة. وجاء تقرير منظمة «الايروبول» في هذه الأيام ليدعم حملة المعارضة اليمينية ضد الحكومة اليسارية لأنه كشف في الخريطة التي نشرها أن ألبانيا أصبحت «المصدر الرئيس» للمخدرات في أوروبا (جريدة «شكولي» 14/3/2017). ولم يكن ينقص الحكومة اليسارية سوى الكشف عن فضيحة القرن الجديد التي بدأت تتحول الى كرة الثلج التي تكبر كل يوم. فقد كشفت الصحافة الايطالية عن اتفاق بين الحكومة الايطالية والحكومة المقدونية على إرسال 1300 حاوية تضم 28,600 طن من النفيات الخطرة لكي تعالج في سكوبيه. ولكن هذه الحاويات اختفت فجأة في ألبانيا، أي في طريقها من روما الى سكوبيه، لكن سكوبيه أفادت بأن هذه الحاويات لم تدخل أبداً الأراضي المقدونية. ونظراً الى خطورة الموضوع، أي أن تكون النفايات الخطرة قد دفنت في ألبانيا المجاورة لايطاليا، فقد طالب عضو البرلمان الايطالي عن «حركة 5 نجوم» ريكاردو نوتي بتحقيق برلماني حول هذا الموضوع (جريدة «شكولي» 15/3/2017). وفي هذا الوضع لا يتورع رئيس الحكومة الألبانية إدي راما عن تحويل انتباه الرأي العام الى الخارج، أي إلى تصعيد الخطاب القومي الألباني الذي يؤدي إلى توتير العلاقات مع الدول المجاورة كمقدونيا وصربيا، وهو الخطاب الذي كان يتميز به الحزب الديموقراطي اليميني. وفي المقابل، نجد الآن أن الحزب الديموقراطي اليميني يأخذ من الحزب الاشتراكي شعاره في حملة انتخابات 2013 («إسقاط حكومة المخدرات») ليرفعه ضد الحكومة اليسارية في الحملة الانتخابية التي بدأت مبكرة في الخيم المضروبة حول مبنى رئاسة الحكومة.