سفر الرؤيا قسمت يومي ثلاثة أقسام، فجعلت الصباح لإطلاق ساقيّ في الخلاء. بناء على وصية صارمة من سيدي ضياء، وكان الوقت الأصفى لاستنشاق الهواء واستكناه منطق الطير الإلهي، والركض ميلاً أو ميلين من دون انقطاع في العزم ولا تعب في النفس، حتى يسيل كل جسمي عرقاً. وأعود فأغتسل وأختلط بالأحناف والشافعية في حِلق التدريس في جوامع أهل الظاهر، أتتلمذ بالمجاورة فيهم، وأسمع تجريد الكلام وطوالع الأنوار والمواقف ومفتاح العلوم ومطالع الأنوار، وأحضر بعض المناقشات الحارّة بين أهل الكلام وبعض أهل الكتاب. ثم أتوجه إلى يوميّة الحفر في المقابر. وأعود في الليل أقرأ رسائل إخوان الصفاء والفتوحات على سيدي. وغزتني الرؤى وطاردتني بصور شهوانية، ذلك أني استعدت قوتي وحرصت على استثمار وقتي بما أوتيت من حرّية اختيار وتحديد للمشاقّ، وأخذ همي يتساقط عن كاهلي مع تصاعد يقيني بحضور القرين المرافق لي. وقويت بنيتي، إذ قسمت لها نصيباً من المرق والخضار المنشطة والعسل واللبن الجيّد، على غير شبع ولا ركون إلى الراحة، مع التزام دقيق بالأوراد والأذكار، وتجويع للنفس يومين في الأسبوع. واعتاد جسدي الأمر؛ فعاودتني نضرة فتوتي وقويت رجولتي. وكان حرصي على تحقيق المعارف الإلهية أقوى من كل أشواقي الأخرى. لكنني كنت أعيش منامات بعضها مفزع وبعضها هانئ، وبعضها لدفق نطفة حبيسة. رأيت على رأسي طائراً يأكل من فطيرة محلاة بالعسل. رأيت فاطمة تمتزج بصورة الفتاة الفاتنة وتنام في أحضاني. رأيتُ أمي وهي تملأ جراباً من القمح. رأيت العسكر وهم يصلبون الحكام على باب زويلة بعد أن يعترضوا طريقهم أثناء عبورهم إلى جسر أبي المنجا. رأيت الفناء والمرض، وموت فجأة يصيب الشبان من غير ضعف ولا ألم. رأيت سوق الصاغة فارغاً من مرتاديه وقد أصبح مقبرة عظيمة. رأيت احتفالاً عظيماً حضرته تجملات عزيزة وأقمشة فاخرة، ورأيت بركة الرطلي في القاهرة وقد أصبحت خمراً. رأيت رجلاً يمشي في قفطان مخمل أحمر ممتطياً بغلة صفراء يعبر الرميلة إلى الصليبة. رأيت رماة البندق يصطفون للصلاة مستقبلي مكة غرب النيل، وإذا بالنهر يفيض ويزداد في وجوههم. رأيت أناساً يأكلون بذر الكتان من فرط الفاقة. ورأيت موتاً عظيماً يغزو المدينة حتى أصبح تتابع الجنائز على المصليات كقطار الجمال، كل خمس عشرة جنازة دفعة واحدة. ورأيتني في مجموعة من الحجاج وقد اعترض قطاع الطرق سبيلنا، وأخذوا ما معنا، وغلبنا الجوع فأكلنا امرأة وطفلها، بعدما قتلنا زوجها. الحب وفيما عدا ذلك كنت كمن يتدرج من الخارج إلى الداخل إلى موصلة الصحن، إلى الصحن. وما أتممت العام الثاني حتى تمكنت من أسباب الطريق، وسهلت عليّ كسهولة تردد النفس في الصدر. واتخذت لي رفيقاً يدعى عبدالقادر، واستأذنت له على شيخي الأول العارف، فأذن له بالمرور به بعد العصر، وكنت لا أجد وقتاً ألقاه فيه غير الساعة الأخيرة قبيل صلاة الجمعة. وراقبته فوجدته ملازماً المسجد قوياً على قراءة القرآن فتوسمت فيه طلائع بداية الطريق. وحدثت بذلك ضياء في خلوة العشاء، فتبسم وقال: أخشى أنك بدأت ترى نفسك وتطمح إلى المريدين، ما زلت في أول الدرب. قلت: لا والله، أنا قطعت من نفسي الاختيار منذ عهد طويل. فتنهد ثم قال: لولا الخشية على عقلك لنقلتك إلى مرحلة جديدة. فتطاولت لذلك القول أشواقي. وعدت إلى البيت بعد المذاكرة وقد فوتت علي الهواجس شيئاً من أذكاري. وسمعت قريني يهمس لي ويوسوس كلاماً غير مفهوم، غير أن قلبي كان مطمئناً إليه، وأخال أنه كان يذكر الله على مسمع مني لإيناسي. ومن الليلة القادمة باح لي ضياء بكلمة، فقال: أصبحتَ من أحبائي يا قاسم. وأطلق تنهيدة عظيمة. فقلت مستبشراً: ذلك مقام ما كنت أحلم به. قال: ألم تعلم أن الله ينادي أين المتحابون في جلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي؟ وبما أننا قطعنا المقيد والمقدّر، فاليوم هو كل يوم. قلت: وهل أحببت أحداً هذا الحب قبلي؟ فابتسم وقال: لا يفارقك طمعك وغرورك، نعم أحببت شيخك العارف الأول، حتى إنني لم أكن أطيق النوم إلا مريحاً صدري على صدره، ثم صفت نفوسنا حتى صار وصالنا على البعد كحاله على القرب، وفرقتنا واجبات الطريق. ثم همس: اطلب ما تشاء يا بنيّ، فالمحبة المقذوفة لك في قلبي تستدعي مكافأتك. وجدت نفسي أهمس من دون وعي: أريد أن أتزوج. قال مبتسماً: حقك، لكن من صاحبة النصيب؟ قلت: لا أعرف أحداً يعرفها إلا أنت. فأطرق ملياً، ثم رفع على نور القنديل وجهاً مبللاً بالعرق، وقال وكأنه نسي ما كنا فيه: غداً أطلعك على شيء من أمر الدنيا. وفي طريق عودتي سمعت قريني يقول: ما أضعف جلَدَك. رفعت صوتي بالذكر، وكنت قد بلغت سورة الزخرف، فتلاشى صوت سخرياته واحترق في أتون الآيات السماوية. * مقاطع من رواية صدرت حديثاً عن مؤسسة الانتشار اللبنانية.