ما زالت منطقتنا العربية تشهد حروباً أهلية في أرجاء عدة، وأوضاعاً سياسية واجتماعية غير مستقرة، كما تعاني دول عربية آثار العمليات الإرهابية التي تقوم بها تنظيمات إرهابية تدعمها وتسلحها أطراف خارجية. وجاءت «الحالة القطرية» لتمس مفصلين مهمين، يشكلان ما تبقى من الكيان الإقليمي العربي المتماسك، في وجه مخططات التفتيت والإرهاب، والمتمثلين في مجلس التعاون الخليجي، التجمع الأكثر تلاحماً، ومصر التي ما زالت تكافح الإرهاب بعد أن نجت من مخطط التفتيت الذي استهدف كل المنطقة العربية. و «الحالة القطرية» جاءت في توقيت سياسي صعب وحرج وغير مسبوق، وستزيد من التشتت والترهل السياسيين اللذين تعانيهما المنطقة العربية، لإبقائها تحت ضغط داخلي متواصل حتى تنشغل عن ما يدور حولها من مخططات، وفي توقيت تقترب فيه نهاية تنظيم «داعش» وأخواته وينكشف دور القوى التي ساندته. والأزمة القطرية تعكس في جانب منها عدم ثقة متبادلاً بين أطرافها، فالسعودية تأخذ على عاتقها مسؤوليات دعم الاستقرار في منطقة الخليج، وتكمن أهميتها في كونها دولة مركزية في النظام الفرعي الخليجي، وتعمل على تكريس عوامل الجذب والحد من عوامل التنافر بين دول مجلس التعاون، وتلعب هذا الدور بحكم ما تتمتع به من قدرات أعلى نسبياً من بقية الدول الأعضاء وتتحمل واجبات والتزامات إضافية، فضلاً عن ثقلها الروحي. ولكن، يبدو أن القيادة القطرية غير مقتنعة بهذا الدور، ولها منظور مختلف تجاه علاقتها بالكل الخليجي، فهي لا تنظر للاعتبارات الجماعية، على أنها أصبحت مهمة ومؤثرة بل وأحياناً مساوية لأهمية الاعتبارات الذاتية الفردية. وانطلاقاً من هذه النظرة، اعتقدت القيادة القطرية أن في مقدرتها القيام بدور إقليمي قيادي وإن لم يتسق مع التوجهات السعودية، وتبنّت سياسة محورية في تفجر ثورات الربيع العربي. وأصبحت قطر تتبع سياسة ومواقف خارجية مختلفة في كثير من الأحيان عن الخط العام لدول مجلس التعاون، وهو أمر تفهمته القيادة السعودية في البداية، طالما أنه لم يمس المصالح القومية والأمنية الخليجية، إلى أن اقتربت منها عشية أزمة 2014، والتي في أعقابها تم اتفاق إعادة السفراء والاتفاق التكميلي الذي وقع عليه الشيخ تميم، أمير دولة قطر. وكان من المفترض أن قطر ستتجه نحو الاعتدال والامتثال للقوانين والأعراف الدولية، فضلاً عن التزاماتها المنبثقة من عضويتها في مجلس التعاون وجامعة الدول العربية، إلا أنها استمرت في دعم التنظيمات المتطرفة والتدخل في الشؤون الداخلية، فضلاً عن استمرار الحملات الإعلامية التحريضية التي تبثها قناة «الجزيرة»، فاشتعلت الأزمة الأخيرة. وعلى رغم تعدد الاتهامات الموجهة من الدول الأربع (السعودية، البحرين، الإمارات، مصر) في أزمة 2017، إلا أنها تلتقي عند نقطة أساسية مشتركة وهي تجاوز قطر الخط الأحمر. فبعض مواقف الدوحة أصبح يهدد الأمن القومي لهذه الدول ويمس استقرارها. وهي اتهامات لم تأت من فراغ، بل استندت إلى وثائق ووقائع وتنظيمات وأشخاص محددين. وكان من المفترض أن مرور أكثر من ثلاثة أعوام على الأزمة الأولى يعتبر فترة كافية لإثبات قطر حسن نياتها، وتنفيذ ما وعدت به والتزمته، بفك ارتباطها بالتنظيمات المتطرفة. لكنها تجاهلت المطالب الخليجية والعربية. وفي الواقع فإن القيادة القطرية ظلت تطبق سياسة إقليمية ذات أسس متناقضة، وتطرح لغة سياسية مزدوجة تتضمن انحيازات واضحة للإسلام السياسي الراديكالي، وكان منطقها يستند إلى اقتناعها بإمكان أن تكون لاعباً إقليمياً نشطاً وفاعلاً، يمسك بأوراق إقليمية تتعلق بالصراعات الدائرة في المنطقة. وكثيراً ما تردد الأوساط القريبة من السلطة القطرية، مقولة إن الدول لا تقاس بأحجامها، والعبرة في النهاية بنتائج هذا الدور، وعما إذا كان يسد فراغاً سياسياً قائماً، ويؤدي إلى نتائج إيجابية أم لا. ونعتقد أن ما حفز القيادة القطرية على الاستمرار في تبني مثل هذه السياسة– رغم محاذيرها– يعود إلى اعتبارات عدة: 1- تراجع دور بعض الدول العربية الكبرى، سواء برغبتها أو لظروف اضطرارية دفعها للانشغال بالداخل، لا سيما بعد ثورات الربيع العربي. وكان هذا الفراغ مغرياً لقطر، المتشوقة للعب دور إقليمي ذي أهمية، لا سيما أن قيادتها وأجهزتها كانت تفتقد إلى قضية أو تحد كبير يشغلها وتزهو به. 2- انحسار التيار القومي العربي المستنير والذي أدى إلى غياب مرجعية الاستناد القومية، فأصبح الخروج على مبادئ التضامن العربي مباحاً، فضلاً عن أن الفوضى السياسية التي تزامنت مع ثورات الربيع العربي، شهدت تصاعد النزاعات الدينية الإسلامية المتطرفة، ونشطت الدعوة المطالبة بتوليها السلطة في بعض الدول العربية، وهو ما حدث في مصر عام 2013، الأمر الذي شجع قطر على إسناد هذا التوجه، لا سيما أنها كانت تحتضن فصائل إسلامية عدة. ولكن ثورة 30 حزيران (يونيو) 2013 في مصر وضعت عقبة رئيسة أمام تنفيذ هذا المخطط، ما يفسر الموقفين القطري والتركي السلبيين من نظام الحكم في مصر. 3- الاعتقاد بأن امتلاك أحد أهم مقومات القيام بدور إقليمي نشط وفعال، هو القدرة على تحمل الأعباء المالية لهذا الدور، المتوافر لدى قطر، وهو ما حفَّز القيادة القطرية للبحث عن المكافئ السياسي الموازي لقدرتها المالية الكبيرة نسبياً، وحل معضلة المكانة والدور، وقد عبر حمد بن جاسم آل ثاني، رئيس وزراء قطر ووزير خارجيتها السابق، عن هذا الفهم بقوله: «نحن دولة صغيرة ليس لها تاريخ وتحتاج إلى ذلك حتى تكتسب الأهمية والمكانة، وتوجد لنفسها دوراً على الساحة». وكم من انطلاقة صادقة قامت بها دولة عربية صغيرة لأداء دور كبير وجد صاحبها نفسه في النهاية أسير كمين لم يدرك في البداية مداه. فالقيام بلعب دور إقليمي متجاوز للقدرات الذاتية، قد يؤدي إلى نتائج عكسية. فحتى دولة كالولايات المتحدة الأميركية، بكل ما تملك من مقومات القوة المتكاملة ليست حرة كلياً في خياراتها الدولية. فقد أدت مغامرتها في فترة الرئيس جورج بوش الابن بشن الحرب على العراق، إلى انحسار الدور الإقليمي والدولي. وظهر ذلك بوضوح في فترة إدارة أوباما، نتيجة لما تحملت أميركا من خسائر في الأرواح والأعباء المالية الثقيلة التي ترتبت على هذه المغامرة، والتي أدخلت واشنطن في أزمة مالية كبيرة. وأوضحت ذلك محدودية القدرة الأميركية، وهي ما أشارت إليه بوضوح مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، في كتابها «الجبروت والجبار». خلاصة القول، إن الإجابة عن التساؤل المضمر في عنوان هذا المقال إننا لسنا في مواجهة خلافات عابرة عادية، وإنما نواجه أزمة ثقة مترسخة منذ فترة زمنية ليست بالقصيرة، وخطورتها تتمثل في أن الاتهامات الموجهة لدولة قطر تمس جوهر الأمن الذاتي للدول الأربع. وقد يقال إن لكل دولة الحق في انتهاج سياستها الإقليمية، لارتباط ذلك بمفهوم سيادة الدولة. لكن هذا الحق ليس حقاً مطلقاً، بل ترد عليه قيود عدة في مقدمها عدم المساس بالمصالح الحيوية للدول الأخرى وعلى رأسها، أمنها الوطني. وبطبيعة الحال فكل دولة تتحمل نتائج سياستها ومواقفها. وهدف الدول الأربع ليس تغيير النظام في قطر، وإنما السعي لحضه على تغيير سياسته ومحاولة إعادتها لما يسمى ب «العقلانية السياسية» التي لا تمنع من ممارسة النفوذ الإقليمي الطبيعي، الملتزم الاتفاقيات الخليجية والعربية والمبادئ الدولية المرعية. وقد عبر عن ذلك وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بقوله: «إننا نتطلع لإنهاء الأزمة مع قطر شرط تغيير سلوكها بإنهاء دعمها المنظمات المتطرفة وتدخلها في الشؤون الداخلية لدول المنطقة وأن تصبح جاراً وشريكاً». فهل تستجيب القيادة القطرية لهذا النداء، وما تأثير دور بعض الأطراف الإقليمية المتعاطفة مع قطر (تركيا وإيران) والدولية (الموقف الرمادي للولايات المتحدة الأميركية) بخاصة، وهل سيؤدي إلى تصلب موقف تلك القيادة وعدم تجاوبها مع جهود الوساطة الحالية؟ إننا أمام «حالة صراع سياسي على النفوذ الإقليمي» منخفض الحدة ولكن، إذا امتدت، قد تأخذ وضع ما بين متوسط وعالي الحدة، وما يترتب على ذلك من تداعيات. والمطلوب لحل هذه الأزمة العمل على تبني آليات ومواقف تتسم بالشفافية والقابلية للمتابعة والمراقبة. ومن مصلحة الدول العربية العمل على إيجاد مخرج للأزمة الراهنة في أقرب فرصة ممكنة، مع استبعاد الأطراف غير العربية من جهود الوساطة، لأنها بحكم التجارب السابقة ستزيد من تعقيدها. وهنا نود التنويه بدور دولة الكويت وأميرها في السعي لإيجاد مخرج لهذه الأزمة، ويمكن التفكير في توسيع نطاق الوساطة بضم سلطنة عمان والأردن. المهم العمل على إنقاذ دولة قطر من نفسها ومن ورطتها في الرمال السياسية المتحركة.