في كتابه القيم «الإسلام ومستقبل الحضارة» يربط المرحوم الدكتور صبحي الصالح بين استبعاد الدين من عالم الواقع ودنيا الناس من قبل محترفي السياسة، وبين مأساة الحضارة المعاصرة التي ضيعت قيمة الإنسان وانتصرت للغرائز على حساب العاطفة والروح. فيقول:»إن أقطاب السياسة المتحكمين في مصير الإنسان فرداً وجماعة في كل مكان، هم الذين شوهوا حضارة العصر عندما شوهوا صورة الدين، وحالوا دون فهمه الفهم الصحيح، لا سيما حين اقتنعوا اقتناعاً بما افترضوه افتراضاً من أن الدين، كل دين، وضع على «الرفوف»، وانسلخ انسلاخاً كاملاً من ميادين الاجتماع والسياسة والاقتصاد. وقد أتاح لهم هذا التصور الخاطئ، أن يأمنوا تدخّل المتدينين الصادقين في شؤون الحياة، وثورتهم على الحكام المستبدين، والرأسماليين الجشعين، و»الليبراليين» المخادعين». الدين والسياسة هل يلتقيان أم أن بينهما برزخاً لا يلتقيان؟ كلاهما يهدف في ما يهدف إلى إسعاد بني البشر في حياتهم. فالمسيح عليه السلام جاء بالمحبة مثلاً ورسالة الإسلام تدعو إلى قيم الرحمة والحرية والعدالة والمساواة. وقد بين العلماء أن الأحكام لم تشرع إلا لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد. أما السياسة في المقابل فهي نشاط من المفترض أن يسعى لتسيير الشؤون العامة وتحقيق الإنجازات للمواطنين والبلاد. وقد اتسمت السياسة في أحيان كثيرة بسمات سلبية كالنفاق والفساد و«الميكيافيلية،» نظراً لأساليب عملها الذي يدور في دائرة صراع المصالح والتحالفات. والسياسة مسؤولة في أحيان كثيرة أيضاً عما يقع حولنا من أحداث في عالم مضطرب يموج بالهزات والقلاقل الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وغيرها، وتسود فيه قيم مادية واستهلاكية وأنانية. فلماذا لا يتسنى للدين أن يقوّم اعوجاج السياسة ويسهم في تقليص السلبيات الناتجة من قصر نظر السياسيين وضربهم بالأخلاق عرض الحائط ؟ ولماذا لا يشارك المتدينون المخلصون في الدفاع عن القيم الإنسانية المهدورة وعن البيئة المهددة على كوكبنا؟ العلاقة بين الدين والسياسة لا تزال موضع جدل ونقاش حتى في البلدان الأوروبية التي كافحت قروناً عدة لفصل الدين عن الدولة، فقد تحكمت الكنيسة قديماً بالمجتمع والسلطة وكان لها دور قمعي أعاق الحريات والتقدم، فالدولة الدينية الشمولية قد لا تقل سوءاً عن مثيلتها اللادينية. أما في العالم الإسلامي فلم تكن هناك مؤسسة دينية سلطوية بل كان الفصل جلياً بين الحكام من جهة وبين العلماء من جهة أخرى، وفي الوقت ذاته عمل الحكام على استمالة العلماء لصفهم فنجحوا مرات، ولكن بقي دائماً ثمة فقهاء مستقلون عن السلطة السياسية لا تأخذهم في الحق لومة لائم. وما نلاحظه في كتب المتأخرين في ما يعرف بالأحكام السلطانية أن الفقه السياسي الإسلامي تجمّد بزوال الخلافة الراشدة وغياب أهم مبدأ في التصور السياسي الإسلامي، ألا وهو الشورى وانتخاب الخليفة من قبل الناس. واستمر الأمر على نفس المنوال في الدولة العربية الحديثة حيث السلطة السياسية المستبدة تضمن ولاء دعاة الدين وتجمعهم تحت لوائها لتعزيز شرعيتها المفقودة شعبياً. ويصح في هذه الحالة قول القائل «ما دخلت السياسة في شيء إلا أفسدته». إن الدين بقدرته على النفاذ إلى أعماق الإنسان وتغيير تفكيره وسلوكه ليكون إنساناً نافعاً ينشد الحرية والعدل والمساواة هو أقدر من السياسة على التغيير نحو الأفضل في كثير من الأحيان، إذ أن ما تملكه السياسة من أدوات يقتصر على وضع القوانين وإجبار الناس على تنفيذها. وتتجلى مشاركة الدين في أفضل صورها في نظام مدني يقوم على الحريات الديموقراطية بما يمكن الدين من أن يفيد السياسة والمجتمع من خلال المشاركة السياسية للمتدينين، ولا يمكن أن تتحقق تلك الفائدة المرجوة في النظام الاستبدادي سواء كان دينياً أو لا دينياً. وكما ذكر عباس محمود العقاد في كتابه «الديموقراطية في الإسلام» فإن شريعة الإسلام كانت أسبق الشرائع إلى تقرير الديموقراطية الإنسانية التي جاءت بالكرامة الإنسانية إيماناً بالحق وكفراً بسلطان المال والقوة، والتي تقيم الحرية على حق الإنسان الذي لم يكن له حق ولا قوة. وهي ديموقراطية توفق بين الحرية والإيمان لأن الحرية بغير إيمان لا تفضي إلى الأعمال والنتائج التي تنفع البلاد والعباد.