يعد كتاب «المختار من اللهو والملاهي» لابن خرداذبه، المتوفى مطلع القرن الرابع الهجري، من الكتب النادرة التي تناولت تراث العرب الموسيقي بصفة خاصة. وتضمن الكتاب نبذاً تاريخية عمَّن لمع من أعلام الموسيقى العربية، اعتماداً على كتب الموسيقيين الأعلام أمثال: إسحاق الموصلي وإبراهيم الموصلي وغيرهما. وقد نقل ابن خرداذبه ما نقل منها وقابل بين منقولاته عنها حتى استوى لديه فجاء كتابه خلاصة في أدب الموسيقى والموسيقيين وما بينهما، خلاصة موسيقية تاريخية أدبية ظريفة. وابن خرداذبه هذا، هو أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن خرداذبه الخرساني، كان جده مجوسياً وأسلم على يد البرامكة. وقد لد ابن خرداذبه سنة 211 ه/825م وتوفي سنة 300 ه/911م. اتصل ابن خرادذبه أول ما اتصل بإسحاق بن إبراهيم الموصلي وأخذ عنه فن الموسيقى وأصَّل أدبها، كما شغل منصب صاحب البريد والخبر في ناحية الجبل في فارس، ثم أدخله الخليفة المعتمد في صداقته فصار أحد ندمائه. ومن خلال معرفته العلمية الواسعة ألف كتابه المهم «المسالك والممالك»، والذي صار مصدراً أساسياً نقل عنه كل من: ابن الفقيه، وابن حوقل، والمقدسي، والجيهاني، وياقوت، وابن خلدون، وغيرهم. أما كتابه هذا في اللهو والملاهي، فهو قليل الأوراق صغير الحجم يدور موضوعه حول الغناء وما يتفرع منه من اللهو وألوان أخرى من ذلك الفيض الحضاري العارم الذي انغمست فيه طبقات المجتمع العباسي الفسيح الأرجاء. ويترتب الكتاب من مقدمة تبحث في موضوع الغناء في الإسلام، وعند الفرس، والهند، والروم، واليونانيين، وفضل الموسيقى والسماع عند كل هؤلاء وأولئك مؤيداً ذلك بأقوال اختارها لرواد الموسيقى في كل أمة من الأمم. وبعد ذلك يأتي ابن خرداذبه على ترجمة المغنيين، مقسماً إياهم إلى طبقات أربع، فيما خص النساء المغنيات بفصل ذكر فيه أشهرهن، ثم استدرك المؤلف على نفسه بفصل ضمنه جملة من أخبار المغنيين. وفي سرده لأخبار هؤلاء يتبع المؤلف النسق التالي: اسم المغني، خبر عن غنائه منقولا من أحد كتب معلمي الغناء، فالأغنية، ومن أي بحر من بحور الشعر هي، فإسم صاحبها، وعلى أي إيقاع غُنتْ. وأخيراً يختم كتابه بفصل في قيمة الغناء عند سائر الأمم، وأثره في النفوس، وأهم الإيقاعات وأنواعها. تقع مخطوطة الكتاب في 29 ورقة تمثل كل ما وصلنا من كتاب ابن خرداذبه «اللهو والملاهي»، والذي طبع للمرة الأولى في بيروت سنة 1969 بعناية الأب أغناطيوس عبده، مدير مجلة «المشرق»، والذي اعتمد في نشره نسخة وحيدة للسيد حبيب الزيات، صاحب الخزانة الشرقية وكانت هذه النسخة من ممتلكات إبراهيم بن عيسى الشامي المتوفى سنة 1085ه. وكتاب «اللهو والملاهي» كتاب مشهور، سماه الصفدي بهذا الاسم، وهو من مصادر أبي الفرج في «الأغاني»، ونقل منه 37 مرة، روى معظمها عن علي بن عبدالعزيز الكاتب عن ابن خرداذبه. غير أن معظم هذه المرويات ليست موجودة ضمن الطبعة المنشورة لهذا الكتاب، مما يدل على أنه أهمل ما أهمل لغثاثته، أو لعدم صحته. كما أن صاحب «الأغاني» لم يتوان عن اتهام ابن خرداذبه بالمجازفة وقلة التحصيل، وهو يقول في ذلك: «وهو ممن لا يحصل قوله ولا يعتمد عليه». ولم يكتف بذلك فحسب، وإنما علق على ما نقله عنه من أن معبداً أدرك الدولة العباسية، بقوله: «وابن خرداذبه قليل التصحيح لما يرويه ويُضمنه كتبه، والصحيح أن معبداً مات في أيام الوليد بن يزيد بدمشق وهو عنده، وأما إداركه دولة بني العباس، فلم يروه أحد سوى ابن خرداذبه، ولا قاله ولا رواه عن أحد، وإنما جاء به مجازفة». وشارك المسعودي في «مروج الذهب» ابن خرداذبه في رواية معظم نصوصه التي تتعلق بتاريخ الموسيقى العربية. وتشهد المقارنة بين الكتب الثلاثة بسقم نسخة الكتاب المطبوع، حيث لحق التصحيف والتحريف معظم ألفاظه. وآية ذلك، ما ورد فيه من قول مؤلفه: «واتخذت الفرس الناي للعود، والزنامي للطنبور، والسرناي للطبل، والمستج للصنج»، فيما هي عند المسعودي: «واتخذ الفرس الناي للعود والدياني للطنبور والسرياني للطبل والسنج للصنج». والظاهر أن الذي اختار هذه القطعة من كتاب ابن خرداذبه، حرص على اختيار ما أهمله أبو الفرج، فجاء فيها على صغرها زهاء عشرين أغنية لم يذكرها أبو الفرج في كتابه، منها: أغنية ابن حودرة «لعب الحب بقلبي فاشتفى»، وأغنية عاصم الدجاني «دارت عليه فزادت في شمائله»، وأغنية الأفرك: «إن لم يكن علق الهوى بفؤاده»، وأغنية الباهلي: «فلما دبت الصهباء فينا»، وأغنية سياط: «وكأن من زهر الخزامى والندى»، فضلا عن أربع أغان أخرى ليونس الكاتب. كما اشتملت على 17 مغنياً لم يتعرض أبو الفرج لأخبارهم، وهم: عاصم الدجاني، وابن حودرة، وابن الشوتري، وابن عازر، ومدار، والأفرك، وزكير، والمروق، وصعتر، وعكاشة، وأبو الخز، وجارية، وحابل، ومحمد بن الصامة ابن فرعة المغنية، ووالده، وعبد الله بن معاوية الباهلي، وصالح الخزاعي. وبدأ المؤلف كتابه بالبسملة والصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)، أتبعهما بحديث رواه محمد بن حاطب عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، يقول فيه: «فصل ما بين الحلال والحرام الصوت وضرب الدف». وفي سياق استشهاده بمرويات الأحاديث أيضا يذكر المؤلف ما روي عن الشعبي في أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، مر ذات يوم بأصحاب الدنكلة وهم يلعبون فقال: خذوا يا بني أرفدة حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة. فأخذوا يلعبون ويقولون: أبو القاسم الطيب، إلى أن رأوا الفاروق فتذاعروا. وما روي عن عكرمة من حادثة ختن عبد الله بن عباس بنيه واستئجاره لعَّابين بأربعة دراهم. أيضاً يجنح المؤلف إلى الاستئناس بالمرويات التاريخية التي حدثت في بلاط الخلافة على وجه الخصوص ومنها أن الرشيد سأل إبراهيم بن سعد الزهري عمن بالمدينة يطلب تحريم الغناء؟ فأجابه: من قنّعه الله بخزيه. فرد الرشيد: سمعت أن مالك بن أنس يحرمه، فقال: شهادتي عليه أنه سُمع في عرس مالكا بن حنظلة يغني: «سليمي أجمعت بيننا، فأين تقوله أينا؟». ثم أكد ابن خرادذبة أن الرخص في الغناء كثيرة وأن لولا مخافة التطويل لأتى عليها جميعاً. منتقلا بعد ذلك إلى بيان موقع الموسيقى والغناء من الفلسفة باعتبارهما أحد أركان الفلسفة الأربعة وهي: حدود المنطق، ومعرفة الطب، وعلم النجوم، والموسيقى. ثم عقد فصلاً صغيراً عن فضل الغناء وفضل العود على جميع الملاهي مؤكداً أن أوتار العود الأربعة إنما جُعلت بإزاء الطبائع الأربعة. ثم أتبع كلامه هذا بفصل خاص عن القيان عند العرب في الجاهلية والإسلام، مؤكداً أن أهل يثرب هم أول من اتخذ القيان من العرب وأن ذلك من بقايا عاد، وأن قريشاً لم تكن تعرف من الغناء إلا النصب حتى قدم النضر بن الحارث العراقَ فتعلم بالحيرة ضرب العود وغناء العبادين ثم أقفل راجعاً إلى مكة فعلم أهلها ذلك فاتخذوا القيان في بيوتهم ومجالسهم. وفي الفصل الخاص بالغناء وأثره يجمع المؤلف النقول والآثار الدالة على فضل الغناء، حيث يروي أقوال كل من: يحي بن خالد البرمكي، وإبراهيم الموصلي، وولده إسحق، وغيرهم. ثم بدأ في سرد أخبار المغنيين مقسماً إياهم على طبقات فجاء في الطبقة الأولى: حابل أبي دهبل، وأبو الخز، والوليد بن يزيد، وعبدالله بن معاوية الباهلي. أما الطبقة الثانية فشملت كلا من: سياط (عبدالله بن وهب مولى خزاعة)، وزيد الأنصاري، وأشعب (أبو العلاء بن جبير، مولى عبدالله بن الزبير)، ومحمد بن الأبجر، ومحمد بن الصامتة. وهكذا جرى الأمر في الطبقتين الثالثة والرابعة. وبالمثل أفرد المؤلف فصلاً كاملاً عن المغنيات من الجواري أمثال: سيرين جارية حسان بن ثابت، وقيان جبلة بن الأيهم الغسائي وكن عشر قينات خمس منهن يغنين بالعيدان الرومية وخمس يغنين بغناء أهل الحيرة كان قد أهداهن إليه إياس بن قبيصة الطائي. وكذلك ذكر أخبار جميلة، مولاة بني سليم، وسلامة جارية أبي نفاع، وسلامة القيس واختها ريّا، وحبابة جارية يزيد بن الوليد بن عبد الملك وكانت لابن مسا فاشتراها يزيد قبل الخلافة بخمسة آلاف دينار، وغيرهن. ثم ختم المؤلف كتابه بفصلين سرد في أولهما أقوال العرب وغيرهم في السماع والطرب، وعقد ثانيهما لبيان الإيقاع في الغناء وأجناسه. * كاتب مصري