انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    «الأونروا» : النهب يفاقم مأساة غزة مع اقتراب شبح المجاعة    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    م. الرميح رئيساً لبلدية الخرج    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    «الأنسنة» في تطوير الرياض رؤية حضارية    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    إطلالة على الزمن القديم    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    صرخة طفلة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«ميزان المصير الوطني في السودان» ... واشنطن و«الإنقاذ» و«الحركة الشعبية»: القرار للوبيات في أميركا (5من5)
نشر في الحياة يوم 21 - 12 - 2010

كتاب الصادق المهدي الجديد «ميزان المصير الوطني في السودان» يأتي في فترة حرجة مع اقتراب الاستفتاء في جنوب السودان، ويعرض زعيم حزب الأمة بالمعلومات والتحليل لهوية جنوب السودان وروافد النزاع في الدولة السودانية الحديثة، مقدماً صورة للتراكمين الخبيث والحميد في مقاربة هذا النزاع عبر اتفاقية السلام تحت مظلة مجموعة دول «ايقاد».
ويركز المؤلف على التنظيمات الإسلامية وصعود تياراتها منذ الانتداب المايوي (جعفر نميري) وصولاً الى انقلاب «الانقاذ» الذي أودى بالسودان الى الحال الراهنة عند مفترق الانقسام وربما التفتت كما يرى المتشائمون، ولا يهمل الصادق المهدي الشأن الاقتصادي وترديه كواحد من أسباب الأزمة الراهنة.
وجنوب السودان الذي ينتظر موعد الاستفتاء، له مشاكله الداخلية التي يعرضها المؤلف من خلال أصوات جنوبية ودولية، كما يتناول أزمة دارفور التي يسميها «قاصمة الظهر».
أما الاستفتاء وما بعده فيحظيان بثلاثة فصول من الكتاب الذي هو في المحصلة شهادة انحياز الى الإنسان السوداني، من خلال وعيها بمشكلات وطن ومحيطه الإقليمي والتدخلات الدولية فيه، فضلاً عن إهمال معظم حكوماته المتعاقبة ما يقتضي حكم بلد غني ومتنوع من جهود ووعي.
«الحياة» نشرت فصولاً من كتاب الصادق المهدي، وهنا الحلقة الخامسة الأخيرة:
بعد سقوط نظام نميري في 6 نيسان (أبريل) 1985، وأثناء الفترة الانتقالية (1985 - 1986) قلت لصديق أميركي المؤشرات تدلّ على أننا سننال أكثرية المقاعد في الانتخابات القادمة، ولا أريد أن يقع بيننا وبين الولايات المتحدة سوء فهم فأرجو ترتيب لقاء بيني وبينهم في مكان ما لنتحدث على المكشوف. وافق ودبر لقاء ضم ممثلين عدة للخارجية والبيت الأبيض والبنتاغون والاستخبارات، في باريس في كانون الأول (ديسمبر) 1985. قلت لهم: نحن حريصون على صداقة أميركا لأنها ديموقراطية ومعين على التنمية الاقتصادية وباب للتكنولوجيا؛ ولكن، هذا لن يكون على حساب تعاملنا مع المعسكر الشرقي، ولا على حساب مصالحنا الوطنية، فلا تسهيلات عسكرية لكم تجرنا الى أجندة الحرب الباردة، ولا تسهيلات للفلاشا تجرنا الى دعم العدوان على شعب فلسطين. أبدوا تفهماً لهذا الموقف وتمنوا لنا التوفيق. ولكن، قال لي صديق عليم بهذه الأمور: قد جاملوك فيما قلته لهم، فالتعامل بالندية غير مقبول. وكان تقديره صحيحاً لأن أول رسالة وصلتني بعد انتخابي بشهر كانت أثناء زيارة السفير الأميركي لي قائلاً: الوجود الليبي في الخرطوم أكبر مما يجب، مما نخشى معه على أمننا والمطلوب تحجيم هذا الوجود!
وكان واضحاً من حديثه معي كرئيس وزراء أن الولايات المتحدة غير راضية على تعاملنا الودي مع إيران ومع ليبيا. ثم قال لي: إذا لم تستجب الحكومة طلبنا فسننقل سفارتنا من الخرطوم غير الآمنة إلى نيروبي. قلت له: نحن نتعامل مع إيران وليبيا من منطلق المصالح المشتركة وفي حدودها، ولا شأن لنا بعلاقتهما بكم، ونعتقد أن الليبيين يحترمون سيادة بلادنا ولا خطر منهم عليكم في الخرطوم، والخرطوم، كما تعلمون، آمن لكم من نيروبي.
نتيجة هذا الحوار قررت الولايات المتحدة فعلاً نقل سفارتها إلى نيروبي لفترة ثم أعادتها في وقت لاحق.
هذا السفير كان مرسلاً خصيصاً لإبلاغنا رسالة قوية لندخل في بيت الطاعة وإلا... فقد عين السفير في الفترة (1986 - 1989) وبعد فترة من نهاية ولايته، كتب كتاباً عنوانه «السودان في أزمة: فشل الديموقراطية» ملؤه النظرة الضيقة، نظرة الآمر الى مأمور غير مطيع. وكان الثمن أن المعونات الأميركية للسودان انخفضت من حوالى 500 مليون دولار في عام 1985 وحده إبان العهد المايوي، إلى أقل من 25 مليون دولار إبان العهد الديموقراطي، بتوقع أن تصل إلى 5 مليون دولار في 1990 - أي تنخفض من 5 في المئة إلى 1 في المئة من الدعم الذي كان يلقاه العهد الديكتاتوري السابق! والحكومة الأميركية كانت تطلب من الحكومة الديموقراطية أن ترد لها ديونها وفوائدها التي أقرضتها من قبل النميري ليقهر الشعب السوداني ويعيق الهبة الديموقراطية، كشرط للحكومة الديموقراطية لتتلقى معونات تصل إلى 1 في المئة من حظ النميري. فتكون الحكومة الديموقراطية هي الممول لأميركا في الناتج النهائي: تدفع 44 مليون دولار مثلا لتتلقى 25 مليون دولار ستخفض الى الخمس! وكنا مستعدين لدفع الثمن لأن ذلك جالب للاستقرار في بلادنا والمنطقة بأكثر من منطق التبعية، كما استطعنا أن نحصل بمنطق الندية هذا على معونات تماثل وتزيد المعونة الأميركية المربوطة بالتبعية، من حلفاء أميركا ومن غيرهم، كما رصدت في كتابي «الديموقراطية في السودان راجحة وعائدة».
الإنقاذيون والملف الأميركي
في بداية الثمانينيات كنا نتداول تعليقاً للأستاذ العالم مونتغمري واط بعد زيارة السودان إذ قال: السودان مؤهل للقيام بتجربة إسلامية حديثة. هذا التعليق ضمن عوامل أخرى حرك حواراً بين عدد من الفصائل الإسلامية بما فيها جبهة الميثاق الإسلامي، الجد الأعلى للمؤتمر الوطني. وحضر بعض المناقشات الأستاذ العالم القانوني توفيق الشاوي. قلت أثناء النقاش: إن أية تجربة إسلامية في السودان ينبغي أن تأخذ في حسبانها: الوجود الجنوبي - والجوار المحيط بنا - ومطالب العصر - وأن تحصن نفسها من أية مكائد دولية بالديموقراطية. قال رحمه الله: لا فض فوك. هذا ما ينبغي عمله (...).
لكن انقلاب «الإنقاذ» ضرب بنصيحة الأستاذ توفيق الشاوي عرض الحائط وبالالتزام بالديموقراطية. لماذا؟
قالوا: لأن مذكرة القوات المسلحة طالبت بإبعادهم من السلطة. الحقيقة أن المذكرة لم تنص على ذلك ولكن ورد على لسان القائد العام ونائبه ورفضت أي تدخل منهما في هذا الشأن، وأبلغت زعيم الجبهة الإسلامية القومية بتفاصيل الأمر وقلت له: دخول الجبهة الحكومة يتوقف على قبولها برنامج القصر الذي صاغه 29 حزباً ونقابة برئاسة السيد ميرغني النصري رحمه الله.
وعلى أية حال، الإبعاد عن السلطة في دستور ديموقراطي لا يعني حل الحزب ولا إبعاد نوابه من البرلمان ولا إخراس لسانه الصحافي، فإن دخلوا الحكومة فبوزنهم، وإن كانوا في المعارضة في دستور ديموقراطي يواصلون دورهم السياسي ربما بكفاءة أكبر. وقالوا: كان آخرون يحاولون الانقلاب فسبقناهم. نعم، كانت هناك أنشطة انقلابية، لكن الموقف الصحيح لمن كان مؤمناً بالديموقراطية هو أن يعاون على كشف المؤامرات ودحضها لا المزايدة عليها. والتنافس على خرق الشرعية ليس دفاعاً أخلاقياً ولا قانونياً.
وربما كان نجاح الثورة الإسلامية في إيران حافزاً مهماً في الإسراع بتقديم تجربة إسلامية سنّية، لا سيما بوجود مؤشرات أنشطة ثورية إسلامية في عدد من البلدان السنّية. وربما عزز حجة القدوة الإيرانية طابع نظام الإنقاذ الصارخ في مواجهة الولايات المتحدة.
لكن ظروف التجربة الإيرانية مختلفة جداً: كان الشاه أشبه بأتاتورك فارسي في سلخ الجلدة الإسلامية، ومع وجود المؤسسة الشيعية الراسخة حرك هذا ثورة إسلامية قوية، ولا شبيه لذلك في الإطار السوداني. والدور الأميركي الاستفزازي لإيران غطاه بصورة جيدة مارك كيتس في كتابه تخاليط القوة. قال في الكتاب: «كثير من الأميركيين لا يعلمون أن الغضب الإيراني على بريطانيا وأميركا له دور في إشعال الثورة الإسلامية في إيران في 1979 وله مبرراته حتى بالمقاييس الغربية. وقد كان هذا الغضب نتيجة للانقلاب العسكري في إيران والذي خططت له وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في عام 1953، وما أعقبه من حكم الشاه الذي اضطهد الشعب الإيراني».
وعلى أية حال، كثيرون من الذين خططوا لانقلاب «الإنقاذ» أدركوا في ما بعد الخطأ الجسيم الذي وقعوا فيه لحزبهم وللإسلام وللسودان. ولكن هذه قضية ينبغي أن تترك للتاريخ وللتحقيق الذي نادينا به ونحرص عليه لكشف كل الحقائق منذ استقلال السودان ونفي الأوهام.
ما يهمني هنا هو تأكيد الطابع المعادي للولايات المتحدة الذي اتخذه نظام «الإنقاذ» والذي أدى الى مواجهة على طول عهدي الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون حتى أدى الى الغارة الغبية على مصنع الشفاء في مدينة الخرطوم بحري عام 1998.
ما الذي غير هذا الموقف؟
من الجانب الأميركي أسباب الانتقال من موقف المواجهة لموقف التواصل موجودة في تقرير المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في شباط (فبراير) 2001.
أما استجابة الإنقاذيين كما حدثت للمداخلة الأميركية عبر وفادة السيناتور جون دانفورث وغيرها من الوساطات الأميركية، فيفسرها تجنب البأس الأميركي الذي ظهر بعد حوادث 11 سبتمبر 2001 ما جعل كثيراً من الدول التي راهنت على تحدي الولايات المتحدة تعيد حساباتها.
وفي دعوة عشاء في منزل السيد فاروق البشري ضمناً نحن الذين شاركنا من مختلف الاتجاهات في مؤتمر نظمته كنكوردس البريطانية في كامبردج في 2007، حضر المرحوم مجذوب الخليفة وقال بصراحته المعهودة وهو يفسر تعامل «الإنقاذ» المستجيب للوساطة الأميركية وقبول نصائحها: ما فعلناه اتقاء للأسوأ.
هكذا تحول الموقف من التحدي الحاد إلى نقيضه وقديماً قال المثل السوداني: «الفات حده بنقلب ضده».
النظام السوداني واللوبيات الأميركية
قال لي د. جون قرنق في عام 1998: لولا أن يساء الفهم يجدر بنا أن نقيم تمثالاً لقادة نظام «الإنقاذ». إن سياساتهم الخارجية جلبت لنا صداقة وتحالف دول جوار السودان والغرب، لا سيما الولايات المتحدة. كنا نعامل في عهدكم كمتمردين لا يتعامل معنا من يتعامل إلا باستحياء، لكننا الآن نعامل بشرعية أكثر من شرعية النظام. ألا يستحق هذا المكافأة؟
إزاء هذا التطور نشأت في أميركا ثمانية لوبيات ضد نظام السودان هي:
- اللوبي المسيحي الذي تحرك لإنقاذ «أمة المسيح من الاضطهاد» على حد تعبيرهم.
- اللوبي الأميركي من أصل أفريقي الذي تحرك لإنقاذ «الأفارقة من اضطهاد العرب» على حد تعبيرهم.
- اللوبي الموجه ضد الإرهاب باعتبار النظام السوداني راعياً له.
- اللوبي الموجه ضد الرق باعتبار أن الجهاد مقترن بالاسترقاق.
- لوبي حقوق الإنسان المهدرة في السودان.
- لوبي الحريات الدينية.
- اللوبي الصهيوني المستعد دائماً لاستغلال متاعب الدول العربية. ولوبي دارفور الذي جعلها قضية رأي عام أميركي بجدارة.
هذه اللوبيات لم تختفِ عندما أُبرمت اتفاقية سلام نيفاشا في عام 2005 ودلت على أن النظام السوداني قد تجاوب مع النصائح الأميركية «واعتدل».
كانت النصيحة الأميركية للنظام السوداني في بداية أزمة دارفور في عام 2003: ركزوا على السلام مع الحركة الشعبية وأنجزوه ونحن نعتبر مشكلة دارفور مسألة داخلية فاقضوا عليها بسرعة وبدقة، العبارة: Get rid of it and be quick and efficient، لكن ما حدث في دارفور منذ عام 2003 اختلف تماماً، وفاقت قضية دارفور في الاهتمام في عام 2004 قضية الجنوب نفسها.
لذلك اتجهت الأنظار الى دارفور وصارت دارفور هي موضوع السودان والعالم الأول. لذلك زار الأمين العام للأمم المتحدة (كوفي انان) ووزير خارجية أميركا (كولن باول) دارفور والسودان في تموز (يوليو) 2004 ولم يسبق لهما زيارة السودان حتى في أشد حالات المواجهة حول الجنوب. لماذا؟
خمسة أسباب تفسر ذلك هي:
- اللوبيات المذكورة لم تكن موجودة بقوتها وحجمها لفترة طويلة من حرب الجنوب، والحركة الشعبية في مراحلها الأولى كانت ماركسية، ولكن عندما انطلقت أزمة دارفور كانت اللوبيات قد تكونت ونضجت فتحولت «بسنونها» لقضية دارفور.
- بعد نهاية الحرب الباردة في 1989 قويت بصورة كبيرة منظمات حقوق الإنسان وصار لها وزن أكبر في توجيه الرأي العام في كل بلاد العالم.
- ثورة الاتصالات حولت العالم كله الى قرية واحدة، فما يقع في أي ركن من أركانها ينشر بسرعة فائقة.
- السودانيون في المهجر، وهم غالباً معارضون للنظام لا سيما أهل دارفور، صاروا موجودين في كل أركان العالم وكوّنوا لوبياً دارفورياً قوياً.
- اللوبي الصهيوني القلق من اهتمام العالم ببطشهم بالعرب وجدها فرصة للتركيز على بطش عرب بأفارقة.
لذلك استمر العداء لنظام «الإنقاذ» مع وجود دلائل على أنه «اعتدل» وصار متعاوناً مع السياسة الأميركية يستقبل بعثات من ال FBI ومن ال CIA (مكتب التحقيقات الفيديرالي، ووكالة الاستخبارات المركزية) ويقدم كل المعلومات المتوافرة عن حلفائه بالأمس من «الإرهابيين».
ما هو موقف أميركا من وحدة السودان وانفصال الجنوب؟
القراءة الموضوعية للموقف تدل على أن مصلحة الولايات المتحدة الاستراتيجية ترجح تأييد أميركا وحدة السودان لأسباب موضوعية:
أ - مقالة «السودان الأسيف» في «نيوزويك» بتاريخ 24/9/2010 تتوقع دولة كسيحة في الجنوب لا يجدي معها الدعم الأميركي.
ب - س. بلير مدير الاستخبارات المركزية الأميركية في إفادة قبل أسبوعين إلى لجنة استماع من مجلس الشيوخ الأميركي قال إنه يتوقع عنفاً بالغاً في جنوب السودان في السنوات الخمس المقبلة.
ج - انفصال الجنوب سيؤثر سلباً في مناطق مجاورة له ملتهبة: غرب إثيوبيا، وشرق الكونغو، وشمال أوغندا.
د - الولايات المتحدة معنية بمحاربة «الإرهاب» وقد نصب شباكه في شرق أفريقيا وأية اضطرابات في جنوب السودان تفسح له مجالاً واسعاً.
ه - لا أميركا ولا إسرائيل لديهما القدرات الكافية مع ما يشغلهما حالياً لتحمل أعباء جنوب معتمد عليهما أكثر من اعتماده على قدراته الذاتية.
على رغم ذلك فيما يبدو ظاهراً أن أميركا تقف مع الانفصال. لماذا؟
- السياسة الخارجية الأميركية تتأثر بعوامل داخلية أكثر من خارجية. وهنالك لوبيات قوية في أميركا غير مهتمة بالعوامل الاستراتيجية المذكورة تؤيد انفصال الجنوب.
- الرئيس أوباما في نظر الأميركيين من أصل أفريقي لم يقدم في عامه الأول شيئاً لهم، والانحياز عامة لانفصال الجنوب فرصة لتحقيق ذلك.
- كل عمل فيه العصا للمؤتمر الوطني والجزرة للحركة الشعبية يجد تأييداً قوياً لدى أوساط مهمة في أميركا، وكسبها مطلوب في الانتخابات لذلك هذا الاهتمام البالغ: زيارة السيد بايدن، ومقابلة النائب الأول للرئيس في نيروبي في تموز 2010، ودعوة السيد باقان واستقباله بالبساط الأحمر في نيويورك وواشنطن في أيلول 2010، والاجتماع الوزاري في شأن السودان على هامش الجمعية العمومية للأمم المتحدة وحضور الرئيس أوباما له شخصياً في أيلول 2010 متماهياً مع مطالب الحركة وملوحاً بالعصا للمؤتمر، وزيارة وفد مجلس الأمن للسودان لجوبا وللفاشر ثم الخرطوم وعدم مقابلة رأس الدولة في تشرين الأول (أكتوبر) 2010 وظهوره كمن يكيل الوعد للحركة الشعبية والوعيد للمؤتمر الوطني، وزيارة جون كيري السودان على الوتيرة نفسها بعد أن قدم مشروع قانون جديداً للسلام في السودان يفيد بتلك المعاني نفسها ويوجب تعيين ممثل خاص لأميركا لمتابعة سلام دارفور ويؤكد دعم أميركا المحكمة الجنائية الدولية. النتيجة أن أميركا ستدعم انفصال الجنوب لأسباب قصيرة النظر وتتخلى عن دعم وحدة السودان لأسباب بعيدة النظر.
الحركة الشعبية والموقف الأميركي
الحركة الشعبية لتحرير السودان أدركت مطبات السياسة الأميركية وتحركت بصورة محسوبة لنفي المخاوف التي يثيرها بعض الأميركيين ولتسهيل مهمة الدعم الأميركي لانفصال الجنوب.
الاجتماع الجنوبي الجامع الذي دعا اليه الفريق سيلفا كير ولم يستثن أحداً من القوى السياسية الجنوبية في الفترة 13 إلى 15 تشرين الأول حركة ذكية في هذا الاتجاه. وتوصيات هذا المؤتمر تدل على أن القيادة الجنوبية حريصة على الوحدة الوطنية وقادرة على جمع الشمل الجنوبي في ظل الدولة الجديدة.
جاء في توصيات المؤتمر جملة من المطالب المتعلقة بضمان حرية ونزاهة الاستفتاء، وكذلك التوجه إلى عقد مؤتمر دستوري جنوبي جامع أجندته:
- مراجعة دستور جنوب السودان لعام 2005.
- صياغة مسودة دستور دائم لدولة جنوب السودان.
- الاتفاق على حكومة وطنية عريضة تحت رئاسة سيلفا كير تتولى السلطة بعد نهاية الفترة الانتقالية في 10 تموز 2011. تقوم هذه الحكومة بإجراء انتخابات لجمعية تأسيسية تجيز دستور الجنوب الدائم.
- تحديد الفترة الانتقالية التي تمكن من إجراء الانتخابات الجديدة.
وتدعو التوصيات إلى تكوين منبر قيادي لزعماء الأحزاب من قيادات الأحزاب الجنوبية برئاسة رئيس حكومة الجنوب، لمتابعة تنفيذ توصيات وقرارات المؤتمر. ويلتقي المنبر مرتين على الأقل في الفترة المتبقية قبل الاستفتاء.
قيادة الحركة الشعبية تتحرك بمنطق الوعي السياسي والواجب التضامني واللغة الديموقراطية الدستورية ومهما كان حظها من النجاح فهذه وحدها هي اللغة الصحيحة. نها اللغة نفسها التي حاولنا التحدث بها مع الحزب الحاكم في البلاد وواجهها بالانفراد والعناد.
سيتحمل الحزب الحاكم في الشمال مسؤولية انفصال الجنوب. وسيحظى الجنوب بدعم وتأييد كل الذين استعداهم الحزب الحاكم. كذلك سيزيد الموقف الأميركي والأوروبي ضغطاً بعد الاستفتاء، وتحتد مسألة المحكمة الجنائية الدولية.
وسيزيد الموقف الجديد من استحالة سلام دارفور:
- اتفاقية أبوجا لعام 2006 قبرت عملياً.
- حلفاء النظام حتى من العناصر الموثوق بها سابقاً عبروا نحو موقف معارض.
- الحركات الدارفورية تتجمع لموقف موحد. وعلى أية حال تتطلع الى دعم من الجنوب المنفصل والى دعم غربي والى دافع قوي من موقف المحكمة الجنائية الدولية.
كنا وما زلنا نقول: سواء اتحد الجنوب أو انفصل فإن مصلحة السلام العالمي وأميركا هي في استفتاء حر ونزيه تتوافر شروط حريته ونزاهته.
وكنا وما زلنا نقول: إن مصلحة الجنوب والشمال في نتيجة مقبولة للاستفتاء تحقق وحدة ندية أو انفصالاً أخوياً. على أن يحظى هذا بمباركة إقليمية ودولية. هذا ممكن شرط أن يتغير نظام الحكم في البلاد أو أن يغير سياساته بصورة جذرية على نحو ما فعلت الحركة الشعبية (...).
أنظمة النزاع الإقليمية ودورها
الاتجاهات الإقليمية صبت في تغذية عوامل الصراع السوداني بطريق أو آخر، ولكن، هنالك عوامل وأحداث غذت الصراع بصورة مباشرة، فدخول السودان كطرف في الكثير من أنظمة النزاع الإقليمية صب مباشرة لمصلحة الحرب في الجنوب، من ذلك:
- نظام نزاع القرن الأفريقي.
- نظام نزاع منطقة البحيرات العظمى.
- نظام نزاع الشرق الأوسط.
علاوة على النزاع الإقليمي الذي دخل فيه السودان موصولاً بالحرب في دارفور (...).
وزاد من حدة البعد الإقليمي وخطورته في النزاع طول الحدود السودانية واتساعها، مع عدم وجود حواجز طبيعية في الغالب، إضافة إلى اشتراك السودان مع جيرانه في القبائل الحدودية شمالاً وشرقاً وغرباً وجنوباً. تسبب كل هذا وذاك في وجود مشاكل حدودية، وفي سهولة انتقال النزاعات من السودان إلى جيرانه وبالعكس.
صحيح أن بعض دول الإقليم كان جزءاً من التسوية في اتفاقية السلام، لكن جاري السودان الشماليين (مصر وليبيا) غابا، كذلك كانت هناك الحرب المشتعلة في دارفور والتي كانت تشاد جزءاً منها ولم تشرك. صحيح أن بؤرة الالتهاب التشادي خمدت بعد المقايضة بين نظامي الخرطوم وانجمينا بطرد أو تسليم المقاومة المسلحة لكل بلد في أراضي البلد الآخر في 15 كانون الثاني 2010. ولكن، له مستتبعات أخرى تجر قوى دولية، فإثر ذلك الاتفاق طلبت تشاد من القوّات الدولية المرابطة في شرق تشاد عند الحدود السودانيّة (المنوكرات) مغادرة تشاد لعدم الحاجة إليها، وكذلك سعت الى تقليص الوجود الفرنسي في أرض تشاد. ولا تخفى المصالح الحيوية لفرنسا في تشاد.
مع هذا التداخل الحيوي في الإقليم فإن بحث المصير الوطني في إطار استفتاء يناير المقبل ينبغي ألا يتم بمعزل عن التأثيرات الإقليمية، في منطقة تتميز بالتداخل الإقليمي والحروب بالوكالة والتدخلات عبر الحدود والنزاعات الحدودية والتنافس على الموارد والأيديولوجيات المتصارعة، ووجود مجموعات إثنية مشتركة، وكل هذا يوضح بجلاء ارتباط هذه الدول وتأثرها ببعضها.
ولا ينبغي أن نغفل أثر ما يحدث في السودان على إقليمه، إذ تتشابه الأزمة السودانية في مسبباتها ومكوناتها مع كثير من مشاكل الدول الأفريقية مع اختلاف في الحدة، وقد أجريت دراسة عن النزاعات المسلحة حول العالم في العقود الأخيرة، وتوصلت الدراسة إلى حدوث تحول دراماتيكي في طبيعة النزاعات المسلحة في العالم، فبعد أن سادت النزاعات المسلحة بين الدول (inter - state) معظم القرن العشرين، أصبحت النزاعات داخل الدول (intra - state) ابتداءً من تسعينات القرن الماضي في تصاعد. فعلى سبيل المثال في الفترة بين 1989 - 1996 كانت حصيلة النزاعات المسلحة الداخلية 95 نزاعاً من جملة 101 نزاعاً مسلحاً حول العالم، ووجدت الدراسة أن الأسباب الجذرية للنزاع تتلخص حول المشاركة العادلة في السلطة السياسية والتوزيع العادل للثروة الاقتصادية ومسألة هوية الدول. أفريقيا كلها تتأثر بما يحدث في السودان.
فالتركيبة الاجتماعية لغالبية الدول الأفريقية تتشابه من حيث وجود مجموعات إثنية مختلفة يتظلم بعضها من التهميش السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، وتوجد في بعضها أقليات تطالب بحقوقها بصورة ناعمة تارة وبصورة عنيفة تارة أخرى، مثلما حدث في إقليم بيافرا في نيجيريا وكاتنغا في الكونغو وكابيندا في انغولا وغيرها، فإن انفصال الجنوب ستكون له أصداؤه السالبة على كثير من دول القارة، لا سيما التي يوجد فيها توتر اثني أو جهوي أو ثقافي، وسيحيي النزعات الانفصالية على هذه الأسس. لهذا حذر الكثيرون من تداعيات انفصال الجنوب وآثاره ليس فقط على السودان ولا الإقليم بل على القارة بأسرها. وبتعبير الكاتب الإثيوبي و. يلما وهو يتحدث عما رآه الانفصال الحتمي لجنوب السودان إثر الاستفتاء: «سياسة النخبة التي مارسها «سياسيون» أفارقة غير مسؤولين هي السبب في هذه النتيجة المؤسفة ليس فقط للسودانيين ولكن لكامل شرق أفريقيا، والاضطراب السياسي في المنطقة شاهد على هذه الحقيقة. اليوم دور السودان وغداً دور بلدان أفريقية أخرى» (...). لقد كررنا الدعوة الى مؤتمر أمني إقليمي يحضره كل جيران السودان، يحقق الاتفاق على شروط الاستقرار وحسن الجوار في المنطقة، وضمان التعاون في المجالات كافة ووقف التدخل في الشؤون الداخلية.
كذلك نعتقد أن دول الإقليم ستعي خطورة الاستفتاء المختلف عليه ومآلاته التي لن تكون بعيدة منها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.