ال «بغداديات» طراز من الفن التشكيلي العراقي يخص موضوع اللوحة، وطريقة بنائها. فهي أسلوب في الفن ينتمي الى حياة هذه العاصمة العريقة، بغداد. وإذا كانت أسُسه الأولى تعود الى القرن الرابع الهجري، والى الفنان يحيى الواسطي تحديداً، فإن واضع أسسه الحديثة هو الفنان الرائد جواد سليم، ومن ثم شاكر حسن آل سعيد، وكلاهما عاد بالتسمية الى ما لها من أصول تاريخية ترتبط بذلك الفنان البغدادي الأول الذي عدّه الجميع، رسامين وباحثين، رائد هذا التوجه في الفن التشكيلي وواضع أصوله الأولى بما جاءت به أعماله من موضوعات اتخذت من طرز التشكيل والبناء الفني ما جعلها تتميز بمثل خصائص الانتماء هذه الى كل من المكان والزمان. وبقدر ما فتح كل واحد من هؤلاء، قديمهم والحديث من آفاق للرؤية الفنية، فإن أسماء جديدة في هذا الفن سيغريها الموضوع، والأساليب المتبعة فيه، فتتخذ منه اتجاهاً في عملها، ومن أبرز هذه الأسماء في الفن العراقي اليوم الفنان ستار لقمان الذي سيفتح، في لوحاته وأعماله، آفاقاً جديدة للرؤية الفنية تجمع، كما جمعت في أصولها القديمة والحديثة، بين الخيال والواقع، أو بين المتخيل موضوعاً والواقع حركة حياة ومعطيات حية، جعل لها هذا الفنان ارتساماتها الجمالية الحديثة، وهو الذي أقبل على مثل هذه الموضوعات متطلعاً بروحه الشابة الى مقابسة تلك الحياة موضوعاتها، فجعل من أزقة بغداد وحاراتها وطرز البناء المتبع في بيوتها الدالة على شخصيتها، في ما لها من طابع معماري، فضلاً على علاقات تلك الحياة وما يسودها من أجواء، أو ترتبط به من رموز... جعل منها موضوعات أثيرة لأعماله الفنية التي نسجت روحها «البغدادية» بتميز واضح راح يتوالى من خلال معارضه الشخصية التي كان آخرها معرضه على «قاعة أكد» في بغداد. نجد في لوحة ستار لقمان هذه، روحاً وطرازاً فنيين، ما لا نجده في فن مجايليه من جيل الستينات الذي عرف بحركته الجديدة، والمجددة، في الفن. فهناك ما يدرك فيه مدينته وهو يوشحها بمعالم من حياتها وتراثها الشعبي الذي يجده دالاً على شخصيتها أكثر من أي شيء آخر سواه. فنجد «الشناشيل» التي اتخذها نافذة لتواصل العلاقات اجتماعياً وعاطفياً في الحي الواحد بأزقته التي امتازت بنمطها المعماري الذي ستتحرى لوحته بعض تفاصيله الدالة. كما ستكون هناك الأزقة بناسها وما تعج به من حياة، مقيماً تواصل الأشخاص فيها، حياة وعلاقات اجتماعية، من خلالها، وما تفتحه له من زوايا الرؤية. وهو يخبر هذه الحيوات والصنوف الحية من قرب، ومن خلال تجربة شخصية مثلتها حياته فيها. فهو، كما يقول، ولد في تلك الأحياء، وعاشها وعايشها، وهو اليوم إذ يبتعد عنها، أو تبتعد هي عنه من خلال امحاء أكثر ما كان لها من معالم، يعاوده الحنين إليها، وحين يعود ولا يجدها تتداعى إليه لتأخذ موقعها، او صورتها وهي تتشكل في عالم يجمع بين الذاكرة والمتخيل الواقعي، تتداخل عنده فيه عناصر أخرى أهمها، بحسب ما يقول، «ألف ليلة وليلة» وحكاياتها المرتبطة بهذه المدينة، ناساً وحكايات، فإذا به يجد مجلى آخر ل «بغدادياته»، كما يؤكد، منفتحاً بها على فضاء أوسع وأكبر هو ما يشكله الفضاء التشكيلي للوحة التي تجمع، كما يقول، بين الذكريات وهي تعود به الى حياته الأولى، وقد ملأت عيونه بمشاهدها، و «الحكايات» ذات النكهة البغدادية في ما تروي وتذكر عن حياة أولئك الناس الذين أدرك حياتهم وعرف الكثير من «أسرارها» مترددة بأصواتها وأشكالها، ليس على ذاكرته وحدها، وإنما في نفسه أيضاً، ليراها في ما يرى النائم: « ذات يوم قريب، وأنا في اهتماماتي هذه، رأيت ما يرى النائم في منامه: لوحة كأني أنا الذي رسمتها بهواجسي هذه، وما إن استيقظت حتى توجهت الى مرسمي فرسمتها... وهي واحدة من أعمال معرضي هذا». ويعزو الفنان هذا التواصل منه مع «موضوعاته البغدادية» الى الحنين الذي يسكنه: «إنه حنين الى الماضي الذي عشت وعرفت، ماضي المدينة التي أشعر بها لا تنفصل عن حياتي، ولا تنفصل حياتي عنها... حنين يلازمني على رغم أنني اعيش فيها ولم أغادرها حتى وهي في أصعب ظروفها وأعقد أيام تاريخها الحاضر». ويضيف: «ذلك الماضي كان جميلاً بالنسبة إلي، أو هكذا أراه»، ومن خصائصه، كما يقول، «الألفة، والبساطة، وحياة القرب والمحبة» التي يجد فيها «عناصر بتنا اليوم نفتقدها، إن لم نكن أضعناها». وتأسيساً على هذه الرؤية للواقع، لا ينفي عن نفسه صفة «المؤرخ تشكيلياً» على نمطه الشخصي والخاص للحياة في طابعها الشعبي، مؤكداً أنه كذلك، «ولكن التاريخ هنا مجسد في أشكال وخطوط وألوان، وليس مكتوباً»... إن «اجواء بغداد، التي عشت وعرفت، باتت حلمي الأثير، أستعيدها كما لم أستعدها من قبل (هل هو العمر الذي يجعلني كذلك؟ أم العدوان على المدينة وتراثها وحضارتها وأنا أراه يمحو اليوم الكثير من معالمها الأصيلة؟)، أستعيدها ممزوجة بشيء غير يسير من عناصر الخيال... بل أكاد لا أفصل، في عملي الفني هذا، بين واقع تشكل في الذاكرة، على نحو أو آخر، وبين خيال يتداعى إليّ من عشرات الحكايات الشعبية التي أجدها تكمل الطابع العام لحياة هذه المدينة وأحلام انسانها». ويعود فيستذكر: «هناك أشياء كثيرة هربت من واقع المدينة الحالي، ولكنها لا تزال تسكن الذاكرة، منها الطيور، واللقالق وأعشاشها ذات التكوين الخاص. إنها لم تعد موجودة، ولكنها حية في الذاكرة بملامحها التي حاولت أن أستعيدها فأعيدها الى حيث كانت من مكانها في المدينة. ولكن في اللوحة، وعلى سطحها، وليس على أرض الواقع... للأسف!» ويتساءل الفنان ستار لقمان: «ترى، ماذا أريد أن أعطي من خلال هذا كله؟» ويجيب: «إذا كانت الأصول الأولى للمدرسة التي وضعتني في هذا المسار الفني تعود الى الفنان يحيى الواسطي، فإنني أخذت عن هذا الفنان، المدهش في تاريخنا الفني، بساطة الشكل، وهذا الجمع، المتحقق عنده، بين الأشخاص والأشكال وكيفية وضعها في عالم واحد هو عالم اللوحة، مع التركيز على «الشخصية - المركز». إن تواصلي مع هذا الفنان، الذي يفصل بيني وبينه تاريخ يمتد نحو عشرة قرون، كان المساعد الفعلي لي في التواصل معه على هذا النحو المتحقق في عملي، هو الفنان الرائد جواد سليم وما حققه من طراز فني متميز في «بغدادياته»... لقد علمني كلاهما كيف يكون الفن ابداعاً حقيقياً حين يقترن العمل فيه بالبساطة. كما تعلمت من الفنان - المعلم، هو الآخر، فائق حسن أهمية اللون في اللوحة، والعلاقة التي تتشكل بينه وبين الواقع، ودور اللون في تحقيقها». «على ماذا أعمل وأنا أتواصل، في عملي، مع مثل هذا التوجه في الفن؟»... نعم، على ماذا تعمل؟... أسأل، فيقول: «إنني أعمل على تكريس هذه «المدرسة البغدادية» وجوداً فنياً واتجاهاً في الرسم، وذلك انطلاقاً من قناعتي بكونها مدرسة حقيقية لفن أصيل يستمد حقيقته من هذا الجمع المتحقق فيه بين البساطة في التعبير والحس المحلي - الذي هو ما يمنح الفن حقائقه الكبرى... وهي مدرسة أعمل على المحافظة على تقاليدها، وتكريس هذه التقاليد التي تحاول لوحتي المحافظة على ما لها من خصوصية تتمثل في هويتها الزمانية والمكانية». ويتساءل، وهو ينظر الى الواقع الفني الحالي: «هل سأجد، من بعدي، من يكمل مشواري الفني مع «بغداديات» هذه المدينة التي أحب، فلا ينقطع المسار: من يحيى الواسطي، الى رعيل الفنانين الرواد، الى جيلي فالأجيال التالية؟ إنها مسألة جديرة بالتفكير والعمل»... هكذا يجدها.