«كان يمكن أن لا أكون... كانت مصادفة أن أكون أنا الحي في حادث الباص، حيث تأخرت عن رحلتي المدرسية». هذا غيض من فيض «لاعب النرد» محمود درويش متحدثاً عن المصادفات، فكان الحي في حادث الباص، كما كانت اليد اليسرى للموسيقي الفلسطيني الشاب رمزي أبو رضوان هي الناجية من رصاص قناص إسرائيلي أراد شلّها لتمتنع كتوأمها اليمنى عن قذف الحجارة على «الجيبات» العسكرية للمحتل، حين كان في العاشرة من عمره، أمام مخيم الأمعري للاجئين قرب رام الله في عام 1989. هو الذي اشتهر بتلك الصورة التي باتت ملصقاً يرمز إلى «أطفال الحجارة» بمعطفه الأحمر الشهير. أيد كثيرة في «حظر التجوال» تقتنصه من كل اتجاه، وأرجل أكثر تركل الجسد الغض لابن العاشرة الذي يبدو في الصف الأول الابتدائي بسبب جسده النحيل. حاول أصدقاؤه والصغار النحيلون إنقاذه برمي مزيد من الحجارة على الجنود، إلى أن فك الاشتباك قناص برصاصة استقرت في يده اليسرى. ولو لم يخرج الأطباء الرصاصة سريعاً لما كان أبو رضوان «الكمنجاتي». ومصادفة أيضاً أن يعبّر رمزي اليافع بائع الصحف المتجول عن عشقه للموسيقى، من دون أن يقولها، أمام سيدة من سكان مدينة رام الله، كان يلتزم تزويدها الجريدة يومياً، فتوفر له منحة دراسية تحوله مع الوقت إلى موسيقي له شهرته العالمية انطلاقاً من فرنسا. لا يعرف رمزي كيف عرفت سريدة عشقه السري، فاصطحبته إلى مركز الفن الشعبي في مدينة البيرة، ومن هناك استقل قطاره السريع في عالم الموسيقى. قرابة 20 عاماً، هي رحلة رمزي الذي لم يستبدل الحجارة بالكمنجة وغيرها من الآلات الموسيقية، كما يقول البعض، بل نقل بموسيقاه فلسطين إلى العالم شاباً، كما نقلها بحجارته طفلاً. فأنشأ جمعية «الكمنجاتي» الموسيقية التي بدأت في البلدة القديمة برام الله، لتتحول إلى مؤسسة موسيقية رائدة تكتشف المواهب بين أطفال فلسطين، وخصوصاً في مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية ولبنان، وكذلك في القرى والبلدات المتعددةً. قبل ولادة رمزي بواحد وأربعين عاماً، كان جده وجدته ووالده يعيشون في قرية «النعاني»، وفي عام 1948، وإثر اغتصاب فلسطين، لم يكتب له أن يدس يده في يد جده ويتجول بين أشجار البلدة، يقطف برتقالة من هنا، ويركب قطاراً في محطة سكة الحديد التي كانت تمر بالقرية باتجاه بيروت، أو دمشق، أو القدس، أو غيرها، فمن حال دون عودة الجد إلى منزله منع رمزي من زيارة القرية أكثر من مرة، وهذا غير مستبعد من احتلال يعمل ليس فقط على إحداث قطع ما بين الفلسطيني وجغرافيته، بل بينه وبين ذاكرته وحكاياته المتوارثة، وبينه وبين نقل يومياته في جغرافيا جديدة، هي المخيم، إلى العالم. فلطالما حال الإسرائيلي دون أن يطلق رمزي ورفاقه الموسيقى في مواجهة الرصاص، كلما تمكنوا من ذلك، فلا تصاريح مرور إلى حيث رمى الجد ظله ورحل، ولا حتى إلى كنيسة في القدس لتقديم معزوفات في مهرجان للموسيقى الصوفية، أو موسيقى الغرفة، أو غيرها. إنها المصادفة التي دفعت رمزي ابن الخامسة إلى أن يخرج إلى الشوارع، يسابق الشمس إليها، وفي يده بضع نسخ من صحف عدة، وقبل أن تسبقه إلى الاختباء، يضع يده المنهكة بحبر الأخبار الثقيلة، بما تحمل من نقود معدنية هي حصيلة يوم من التعب أو أقل، في يد الجد بما تحمله من تجاعيد، كما هي قسمات وجهه. في الانتفاضة عرف الكبار رمزي بائعاً للصحف وقاذفاً للحجارة، والآن، وفي الذكرى الثلاثين للانتفاضة، اختارته وزارة الثقافة الفلسطينية شخصية العام الثقافية 2017، في 13 آذار (مارس) المصادف يوم مولد محمود درويش الذي بات يوماً للثقافة الوطنية. وقبل عامين وثّق الكاتب الأميركي ساندي تولان سيرة رمزي في كتاب حمل عنوان «أطفال الحجارة: قوة الموسيقى في بلاد صعبة»، وقبلها قُدم عن سيرته عمل فني يمزج ما بين المسرح والموسيقى والسينما والفن التشكيلي، لفنانين من إيطاليا والنروج وفلسطين والأردن، ليبقى رمزي حكاية إلهام تبقي الانتفاضة بروحها المتقدة على قيد الحياة، وتجعل من فلسطين مقطوعة موسيقية عابرة للجغرافيا والأزمنة، وغابة الإسمنت التي يعيش فيها (المخيم)، وكأن الراوي يقول: كان يا ما كان ولد صغير اسمه رمزي، كان قائداً من قادة أطفال الحجارة، وبات قائداً ينشد فلسطين. يقبض على الكمنجة بيسراه التي نجت من رصاصة غير طائشة، ليعزف بكل عنفوان «موطني».