قمت بزيارة إلى اليمن أواخر 2006 ، وقبل عودتي رغبت في مقابلة بعض اليهود الذين يعيشون في ريدة من محافظة عمران. لم يحالفني الحظ بلقاء حاخام اليمن ابن يعيش فقد كان وقتها مريضاً ولا يستقبل أحداً من زواره ولا من المرضى الذين يعالجهم من السحر والمس برقى يخلط فيها القرآن بالتوراة. طوال الطريق كان السائق يحذرني من رؤية هذا \"المشعوذ\" الذي يعرف بالعيلوم، تمكنت من التجول في مدرسة قريبة من مقر إقامة الحاخام، كانت الفتيات الصغيرات في معزل عن الصبية، وبدا الجميع متحفظين وغير راغبين بالحديث، وأثناء انصرافي يائساً مررت بسوق القرية الصغيرة التي يختلط فيها المسلمون باليهود، والتقيت ببعضهم في السوق وكانت شتائم صغار المسلمين الذين تبعوا ذيلي تنهال على اليهود: \"يابو زنار. يابو زنار\". التقطت بعض الصور معهم ثم قفلت إلى صنعاء، وقد أصبحت هذه البلدة حديث الصحافة العالمية ومحل اهتمام جهات دولية متعددة بسبب إسلام فتاة يهودية تزوجت ابن زعيم قبيلة مسلم اتُّهِم بخطفها، وشاركت عشر قبائل يمنية في تجهيز حفل زفافها. في زواج لأحد أقاربي وأنا صبي انتظرت لحظة غفلة من طقاقة كانت قد انشغلتْ بتناول العشاء مع صويحباتها في فترة راحة، وحينما مددت يدي إلى الطبل أو الدف شعرت بي فانهالت علي بكوع يدها على ظهري وقالت لي \"ياليهودي ماصدقت؟\". شتم الآخر ب(اليهودي) هو تكثيف لوصفه بالمكر والفساد والتخريب. القرآن الكريم يماهي بين اليهود وبني إسرائيل،وقد قرأت القرآن في سنواتي المبكرة في المدرسة، ولكنني لم أستوعب أن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم هو إسرائيل نفسه والد الأسباط إلا متأخراً. ومع أننا اعتدنا في نجد التسمي بأسماء أنبياء يهود وملوكها كيعقوب وموسى وسليمان وداود وعيسى إلا أن إسرائيل ليس منها، مع أن هناك حديثاً مرفوعاً إلى الرسول عليه السلام يوصي بالتسمي بأسماء الأنبياء، وقد كان التسمي بإسرائيل ولوط معروفاً بين السلف في القرون الأولى، ولوط-حسب الرؤية الإسلامية- هو ابن أخ إبراهيم أبي الأنبياء جد اليهود والعرب، ومن علماء نجد الذين ترجم لهم ابن بسام عالم من بلدة الغاط يقال له ابن يوشع. من أطرف ماسمعته ما أفضى به إلي عجوز مسن قبل أكثر من عشرين سنة حيث ذكر ثلاث عوائل نجدية أكد أن جذورها تعود إلى اليهود، كان ينطقها وكأنه يفضي بسر لايحق له البوح به. ولكنني كنت أعلم أن ذلك لا يخرج عن سياق النبز والعصبية، رغم ذلك انسقت مرة وراء ذلك الادعاء حينما قابلت بعضاً من أبناء تلك العوائل، فكنت أتأمل سحناتهم وأنوفهم وقسمات وجوههم. حينما تزوج الرسول صفية بنت حيي بن أخطب ويقال إنها من ذرية هارون بن عمران غارت منها زوجات الرسول، كانت صفية باذخة الجمال فسمعت من يشتمها بأنها يهودية، فشكت إليه فقال لها: \"قولي لهم إن أبي نبي وعمي نبي وزوجي نبي\". وفي لقاء أذاعته قناة العربية في أبريل 2007 ذكر حاخام اليمن ابن يعيش أن يهود اليمن هم من ذرية هارون. حتى اليوم يصعب التحقق مما يحكى من قصص حول قيام بعض تجار قلب الجزيرة العربية في الأربعينات الميلادية بمساعدة يهود العراق المهاجرين إلى فلسطين في نقل أموالهم، إلا أن أحد كبار التجار في منطقتي يحكي لأبنائه قصته مع أحد تجار اليهود في حيفا وصدق تعامله معه، فقد كان يأتمنه أكثر من أبنائه ويسمح له بأن يفتح الخزانة ويقترض منها مايشاء ويقيد ذلك بورقة يلقيها إليه ثم يستأذن. بين تينك القصتين كان ما استقر في عقولنا هو الفكرة الشعبية التي غذتها الأساطير عن يهود وجرائم يهود وخسة يهود وضعتهم. قبل ست سنوات دعاني صديق لتناول الإفطار في منزله في الرياض، وبعد انتهائنا أهدى إلي قرصاً يحتوي على بعض الأغاني اليهودية التي تحكي مآسي اليهود وعذاباتهم منذ الأسر البابلي مروراً بالقرون الوسطى إلى عصر الأنوار، كانت أغاني الشتات تقطر أسى وألماً، توقف صديقي عند واحدة من الأغاني وجعل يشرح لي مناسبتها، بعدها بسنتين أتيحت لي فرصة زيارة المتحف اليهودي في برلين، الذي يعمل به اليوم أربعة مسلمين أتراك يقومون بمهمة الإرشاد والشرح. شاركتُ مجموعة من الشيوخ والعجائز الدخول إلى أحد أفران المحرقة.الجميع كان صامتاً. وبعد لحظات انفجر معظمهم ببكاء مكتوم، كانت إحدى العجائز بجواري ترتجف وحفيدها يضمها من الخلف.فخجلت وأطفأت الكاميرا. وفي رحلة عودتي توقفت بنا الطائرة في مطار زيورخ وكان من المصادفة أنني وقفت في الصف بين اثنين من رجال الدين اليهود، وحينما رآني رفيقي في الرحلة بينهما ابتسم ابتسامة خبيثة وقال لي هامساً أين أوقعك الله؟ وفي نوفمبر2007 استضفت صديقاً يهودياً أبوه حاخام وجده لأمه كان من كبار الإصلاحيين في القرن العشرين، قضينا أسبوعاً كاملاً من الصباح الباكر حتى منتصف الليل. مرة قصدنا إمارة رأس الخيمة فأخذت معي مجموعة من الأشرطة عن اليهود من إصدارات المجمع الثقافي بأبوظبي، وهي مقتبسة من كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت. ثمان ساعات تخللها استماعنا إلى الأشرطة وقراءة القرآن، وقد كان صاحبي يحفظ كثيراً من الآيات والسور ويقرؤها مجودة . تدارسنا تفسير بعض الآيات وأنشدني بعضاً من التراتيل ومقاطع من التوراة وغيرها.أذهله كيف يمكن أن يسمح ببيع تلك الشرائط التي أحضرتها معي لأنها في رأيه كانت منصفة وخالية من التحيز.بإمكانكم أن تقرؤوا ماكتبه ديورانت عن اليهود في قصة الحضارة فقد كتب عن الرسول محمد عليه السلام في مكة بإنصاف وإجلال، كما كتب عن اليهود بكل حياد ونزاهة. والكتاب بين أيديكم، فانهلوا منه، فقد تحدث عن حقيقة جبن اليهود وشجاعتهم ، وعن شركهم وتوحيدهم وعن كتبهم وآدابهم، وتأثيرهم في المعارف الإنسانية والحضارة البشرية. لا أدري لماذا لايمكننا الوصول إلى الكتب والأفلام الوثائقية والسينمائية التي أنتجت عن اضطهاد اليهود طوال حكم النازية في ألمانيا؟ إن المحرقة ليست كل ماحصل في فترة حكم النازيين بل كان هناك معسكرات الاعتقال والسخرة وصنوف الإذلال والتصفيات الجسدية في أكثر من مائة معتقل، وهذه لا يجحدها مؤرخ يحترم نفسه، وقد ذكر عبدالوهاب المسيري أن أرجح إحصاءات الهولوكوست تتفاوت مابين أربعة إلى ستة ملايين يهودي قضوا أثناء حكم النازيين، ولكنه يشير إلى أنه لايمكن فهم الهولوكوست إلا ضمن السياق الثقافي لأوروبا. ذات مرة كنت في السوق الحرة في مطار دبي وكان من بين الأفلام المعروضة (قائمة تشاندلر)، ولضيق الوقت لم أتمكن من شرائه وبعد فترة سألت عنه فقيل لي إنه أصبح من الممنوعات. إن هناك قائمة بمائة وعشرين ألف شخص من الصين والبرازيل واليابان وتركيا والبوسنة، تعرف بقائمة الشرف، وكل هؤلاء ساهموا في حماية اليهود وإخفائهم بعيداً عن أعين النازية، وهذه الأسماء لم تخلق من عدم، ومن الجيد أن الجزيرة الوثائقية وقناة الحرة قد قامتا بتعويض هذا النقص، فهما تبثان أحياناً بعضاً من الأفلام الوثائقية الجيدة عن اليهود وإسرائيل ديانة وثقافة. لم يتح لي ولأبناء جيلي ولمن بعدنا أبداً أن نعرف شيئاً محايداً وموضوعياً عن اليهود ولا عن دولة إسرائيل إلا خارج المصادر التي حقنت بها عقولنا. مالذي يخيفنا أن نعرف مالذي يجري داخل إسرائيل؟ كيف يعيش الناس داخل إسرائيل؟ كيف يتعايش المجتمع الإسرائيلي بمختلف طبقاته وشرائحه وفئاته؟ إن في إسرائيل جماعات إسلامية تعمل في العلن، وقد اكتشف الإسرائيليون في سبتمبر 2007 جماعة من النازيين الجدد وهم شباب يهود يحملون الجنسية الإسرائيلية، يلبسون الملابس النازية ويحتفظون بصور هتلر ويحتفلون بعيد ميلاده ويؤدون التحية النازية ويلطخون المعابد برموز النازيين،ويعتدون على اليهود الأرثوذكس. قبل عشر سنوات قام إدوارد سعيد ودانيال بارنبويم بتأسيس منتدى للناشئين والشباب اليهود والمسيحيين والمسلمين، نشأ منه (أوركسترا ديوان الشرق والغرب)، واليوم يشارك الفلسطيني رمزي أبو رضوان ابن التاسعة والعشرين ضمن هذه الفرقة التي تجوب العالم، ولد رمزي في المخيمات وفي عام 1987 سنة الانتفاضة الفلسطينية التقطت له صورة شهيرة وهو يحمل بيده حجراً وهو في عمر التاسعة، أصبحت رمزاً لطفل الحجارة، ولكنه اليوم يشارك في شرح مأساة اللاجئين وسكان المخيمات عبر الموسيقى، ويقول رمزي الذي أسس معهد الكمنجاتي في رام الله ويدرس فيه 350 طفلاً \" نحن نتحدث عن هذا الصراع وكأنه نشأ قبل أسبوع، بينما بلغ عمره عقوداً من الزمن، ليس الصراع سياسيا ولاعسكرياً إنما هو صراع إنساني لأن هناك شعبين يطالبان بقطعة الأرض نفسها. أستطيع أن أروي معاناة الشعب الفلسطيني للغرب بالموسيقى أكثر من أي طريقة أخرى\". التقيت ببعض الإعلاميين قبل سنتين من الأردن وكم أثار دهشتي حينما عرفت أن بعضاً من الأفلام القصيرة والبرامج التي ينتجونها يقوم بتمويلها مؤسسات إسرائيلية، ورأيت كيف يتحدثون بشغف عن أمنيتهم أن يجدوا تمويلاً من هذه المؤسسات. غالبيتنا العظمى لايعرفون أنه حتى عام 2002 كان يدخل إسرائيل يومياً عشرات الألوف من الفلسطينيين الذين يعملون لدى الإسرائيليين ويتقاضون أجورهم من أياد إسرائيلية، ثم يعودون إلى بيوتهم في الضفة وهم على هذه الحال منذ عقود، يرون الصهاينة ويتحدثون معهم ويعاشرونهم، وقد تقلصت أعدادهم بشكل كبير في السنوات السبع الأخيرة مع ازدياد الأوضاع سوءاً. إن المعرفة قوة وليست ضعفاً ومعرفتك الجيدة بمن تعتقد أنهم أعداؤك ستمنحك إدراكاً واسعاً ورؤية سليمة. ربما تتبخر تلك الأوهام أخيراً التي عششت طوال عقود ، وأن نفهم كالأصحاء أن أمة انتصرت سبع مرات في حروبها لايمكن ان تكون أمة ذلة وهوان وجهل.ولكن أين من يعقل؟ فقد عرج بالعقول. منصور النقيدان [email protected]