لعلها المرة الأولى في الشرق الأوسط التي فيها يجتمع في معرض واحد بيكاسو وجياكوميتي، على رغم فارق التجربة والسن بينهما، معرض «مطافئ»، الذي يعد أحد أكثر مواقع العرض شهرة في قطر، فعلها وأتاح لجمهور مختلف المشارب ومتنوع الاهتمامات أعمالاً غاية في الجمال، أعمالاً تثير كثيراً من الأسئلة، فضلاً عن كونها تمنح المتلقي خيطاً ناظماً لأعمال الفنانين العالميين، وكيفية تطور العمل لديهما والمراحل التي قطعها والمؤثرات التي عكسها وتعاطى معها. بيكاسو(1881- 1983) وألبرتو جياكوميتي (1901- 1966) يعدان من أبرز فناني القرن ال20، حمل المعرض رمزية كبرى للمدى الذي يمكن أن تصل إليه الدوحة في اهتمامها بالفن والفنانين، فالدوحة أول من يعرض لهذين الفنانين معاً في الشرق الأوسط. ضم المعرض أعمالاً اختيرت من المجموعات الغنية والمتنوعة من متحف بيكاسو الوطني ومن مؤسسة جياكومتي في باريس، إضافة إلى قطع مستعارة من مجموعات فرنسية ودولية. يسلط المعرض، من ناحية على طبيعة العلاقة الودية أو الرسمية في بعض الأحيان التي كانت تربط الفنانين، إضافة إلى اهتماماتهما المشتركة في مراحل مفصلية من سيرتهما الفنية على رغم فارق السن، الذي يبلغ 20 سنة. يضم المعرض ما سيروق للجميع من الجمهور العريض، وصولاً إلى طلاب معهد الفنون، مروراً بالأخصائيين المهتمين بالفنانين، فيقدم المعرض معلومة عن طباع الرجلين وشخصيتيهما، ما يشجع على النظر إلى أعمالهما من زاوية جديدة. وفي حين يذكرنا المعرض بأن كلا الفنانين يمتاز بشخصية مختلفة وفريدة، إلا أنه يبرز لنا أيضاً كيف تتشارك أعمالهما روح الحرية والإبداع. وهو يظهر الأوجه المتعددة لإنتاجهما الفني على تنوع المواد المستخدمة. فيعطي الزائر لمحة فريدة عن نقاط التشابه بين أعمال الفنانين. تقول رئيس مجلس أمناء متاحف قطر الشيخة مياسة بنت حمد بن خليفة آل ثاني: «تأتي استضافة معرض بيكاسو - جياكوميتي إلى الدوحة وفقاً إلى المسار المعهود لمتاحف قطر بتوفير أهم الأعمال الفنية في العالم، وحشد المجتمعات المحلية والمساعدة في بث الوعي للأجيال المستقبلية من المواهب الفنية». وأضافت: «كما أنه من الملائم أن نستضيف معرضاً بهذه الأهمية في المكان عينه، حيث تنفذ برنامج «مقر الفنانين» فنحن - بوصفنا منظمة - ملتزمون ببرامج مثيلة تدعم إنتاج قطر للخبرات الفنية والثقافية والتراثية من الداخل، وتشجع على الإبداع المحلي والإسهام في بناء مستقبل مثير وخلاق لقطر». في حين أوضح مدير مطافئ خليفة العبدلي أن استضافة معرض بيكاسو - جياكوميتي تأتي تأكيداً لرؤية متاحف قطر ودورها في نشر الثقافة في المجتمع ودعم الفنانين، «يرتقي هذا المعرض الاستثنائي بالفن إلى البعد الذي نصبو إليه، من خلال برنامج الإقامة الفنية في مطافئ مقر الفنانين»، مشيراً إلى الأخذ بيد الفنان القطري والمحلي «عبر دمجه ببرنامج إقامة فنية تحت سقف واحد، ما يسهم في تبادل الخبرات بين الفنانين ويفتح باب الحوار، ليس على المستوى المحلي فقط، بل على المستوى العالمي أيضا». وتجسد أعمال بيكاسو - جياكوميتي حقبة مهمة ومدرسة فنية غنية تغذى عليها واستلهمها عدد من الفنانين والمبدعين في العالم. حوار بين اثنين من عمالقة الفن لفتت أمين المعرض كاثرين غرينيير إلى أنه، بفضل أبحاث خاصة بهذا المعرض، الذي ضم حوالى 120 عملاً، تكشفت معالم علاقة رسمية، وكذلك أواصر صداقة لم يكن يعرف عنها كثيرون، وطرفاها هذان الفنانان، إذ أظهرت الأبحاث اهتمام كل منهما بالآخر في لحظات مفصلية في مسيرتيهما، على رغم فارق العمر بينهما. إذ ولد كل من بيكاسو وجياكوميتي لأبوين فنانين، كما تمتعا بموهبة استثنائية في الرسم منذ صغرهما، وانتظم الاثنان في تيارات الفن الطليعي، وأصبحا من الشخصيات الرائدة في عالم الحداثة. وعلى رغم أن كلاً منهما تمتع بخصال مختلفة على المستوى الشخصي، فإنهما يتشاركان بروح الحرية والابتكار، كما تقاسما ذلك الافتتان بالرابط بين الأحياء والأموات والقناعة بمحدودية التمثيل الفني. وتذكر غرينيير أنه منذ اللقاء الأول الذي جمعهما في مطلع ثلاثينات القرن ال20، ووصولاً إلى الحوار المعمق بينهما بعد الحرب العالمية الثانية، لم يتوقفا عن تبادل الآراء بخصوص إبداعاتهما، وبدءا من نهاية الثلاثينات طرأت تغييرات على الممارسة الفنية لكليهما، وطرحا كثيراً من الأسئلة في خصوص الفن وعلاقته بالواقع، لتأتي استجابة الرسام-النحات والنحات-الرسام مختلفة عن الآخر. يقدم المعرض إضاءات منسقة، بحسب المواضيع والترتيب الزمني لأعمال هذين الفنانين الرائدين، لاستقصاء أوجه التشابه والقواسم المشتركة لرحلتيهما في عالم الإبداع. تحمل المنحوتات الأولى التي قدمها بيكاسو وجياكوميتي الطابع الفني، الذي يميز النحات أوغسط رودان. وبينما كان جياكوميتي أحد تلاميذ أنطوان بورديل في أكاديمية غراند شوميير في باريس، لم يتدرب بيكاسو بصفته نحاتاً طوال مسيرته. وعندما أدرك الفنانان استحالة تقديم منحوتات بورتريه «أمينة للأصل» عبر الأسلوب الطبيعي، تبنت الحلول التي اتخذها الاثنان مسارات موازية. بالنسبة إلى جياكوميتي وإبان وصوله إلى باريس، سار على نهج الفنان الأكبر سناً منه، بعد أن اكتشف أعماله. تخلى عن نمط البروتريه الكلاسيكي، الذي تبناه في منحوتته الخاصة بشقيقته أوتيليا (1925)، موظفاً في أعماله الخطوط المتحورة والتنميط التكعيبي متعدد الأوجه، الذي اتبعه بيكاسو في منحوتات البورتريه لعشيقته فرناند أوليفييه في عامي 1906 و1909 وبينما تحمل لوحات بيكاسو من فترة «التكعيبية الجديدة» في عشرينات القرن ال20 سمات «الانتقال إلى تسطيح الأشكال»، وهو ما يتجلى في أعمال مثل «شخوص» 1927، نقل جياكوميتي هذه المقارنة إلى عالم النحت، عبر «شخوص مسطحة الشكل»، تحافظ على صلة بسيطة بعالم التجريد، لكنها لا تزال في الوقت نفسه مشبعة بأسلوب التمثيل الفني. كذلك الأمر، تحمل تركيبات جياكوميتي القضبان والأقفاص ذاتها، كعمله الذي يحمل عنوان: «رجل - أبولو» 1929، وملامح لوحة بيكاسو «شخص»، التي كرم فيها الكاتب غيوم أبو لينير. حقبة السيريالية استقطبت منحوتات جياكوميتي اهتمام أندريه بويتون عام 1931، الذي دعا جياكوميتي للانتظام في تيار السيريالية. إبان تلك الفترة، تقاسم جياكوميتي مع المجموعة اهتماماتها بالأحلام واللاوعي وعالم الصدفة، وبقي نشطاً في المجموعة حتى سنة 1935 عندما نأى بنفسه عنها وعاد للعمل مع طرازاته. أما بيكاسو فلم ينضم إلى هذه المجموعة أبداً على رغم أنه تابع عن كثب تيار السريالية، وعكس نتاجه الفني عدداً من العناصر التي ميزت المدرسة السيريالية. وكما هي الحال بالنسبة إلى جياكومتي، قدم تصورات خيالية وشخوصاً مشوهة. أما الطابع العدائي الظاهر في لوحته «امرأة تلقي حجراً» فيحاكي عمل جياكوميتي «شيء كريه» مع الإشارة إلى أن الفنانين أتما العمل عليهما في السنة ذاتها، 1931. قدم كل من بيكاسو وجياكوميتي كثيراً من الأعمال لسيدات ربطتهما بهن علاقة حب، وهو ما يعكس حال شغف لا ينضب بين الفنان ومصدر إلهامه. وعلى رغم سعي كليهما لتقديم الطراز بأمانة وواقعية، فإن أعمالهما تعكس كذلك الانفعالات النفسية التي صبغت علاقتهما بالحبيبات؛ بحيث إن وجه عشيقة بيكاسو دورا مار والطراز الرئيس له بين عامي 1935 و1943، يظهر في اللوحة في حضور تطغى عليه نظرتها المعذبة. أما أنيت، التي أصبحت زوجة جياكوميتي سنة 1949، فلم تمانع من الجلوس ساعات طويلة أمامه. ولتقديم طيف هذا الكائن، خضع وجهها لتفحص معمق على يد فنان يخوض مهمة مستحيلة في إطار «بحثه عن المطلق»، بحسب جان بول سارتر. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، التقى الفنانان في باريس مجدداً، وتبادلا الزيارات في شكل منتظم. تستعيد أعمالهما من تلك الحقبة واقعية الحياة اليومية. بالنسبة إلى بيكاسو، اكتست فضاءات لوحاته طابعاً كئيباً ثقيل الوطأة، بينما قدم جياكوميتي شخوصاً هامدة، مستخدما البرونز القاسي، الذي بدا وكأنه حجر. تتكشف أيضاً هذه الصلة المتجددة مع الواقع في الأعمال التي تركز على عالم الطبيعة، كتلك الخاصة بالمناظر الطبيعية والطبيعة الصامتة والحيوانات. وفي عمله الذي يحمل اسم «الكلب» 1901 وقع خيار جياكوميتي على كلب أفغاني نحيل كان يملكه صديقه بيكاسو. وتقول فيرجيني بيردريزو أن جياكوميتي فنان حد من تعابيره الإبداعية للتعبير عن جوهر الوجود فحسب، وبالتالي يبدو أنه يتعارض بقوة مع بيكاسو غزير الإنتاج، الذي يرى الفن على أنه مختبر للأشكال ومجال لا متناهٍ للاختبارات.