إنَّ الفن في مجمله تعبير عن قدرة الله العظيم الذي وهبنا الجمال ومنحنا الخيال، فكان الفن والموسيقى هما أحد أركان الفن، بل هما غذاء الروح التي تؤثر على جميع المخلوقات، فالنباتات تتأثر بالموسيقى، والخَيل تنفعل بالموسيقى فترقص. إذا كان الفن هو تعبير عن الحال الاجتماعية والفكرية التي تسود المجتمع، فإن ما نشاهده وما نسمعه اليوم يدعو إلى الصراخ والهيجان من كلمات ولحن ضعيف وأداء، فإذا كان هناك أداء يعتمد على الجسد والتكسير أكثر من أي شيء له علاقة بالفن، وكأن الناس أصبحت تسمع بأرجلها بدلاً من أذانها ،وما أجدرنا بتساؤل هل هو طبيعة هذا الزمن؟ أم هم الدخلاء الذين غيرّوا الفن؟ وإذا سألت أحد الفنانين عن هذا الإسفاف أجابك الجمهور «عاوز كده»، (كبرت كلمة تخرج من أفواههم)، هل يريد الجمهور تصوير الأغاني في الحمامات، أم أنه يريد مشاهدة الفنان وهو يَحْلق ذقنه؟ إي استهتار بالجمهور وذوقه. بيد أني لا أعرف سر الغواية من التصوير في الحمّام، ولا سر الجمال في حلاقة الذَقن، هل هان عليهم ذوقنا إلى هذا الحد؟ أين نحن من أغاني الزمن الجميل، زمن أم كلثوم، وعبد الحليم، وأسمهان، ونجاة، ومحمد عبده وطلال؟! كيف كان الجمهور يستمع بالساعة لحفلة من الحفلات العظيمة «أم كلثوم» في سعادة وحبور، ويتمايل طرباً وشغفاً ويترنم مع ألحانها وكلماتها المعبرة الجميلة التي ترتقي بالذوق وتسمو بالأحاسيس، على عكس ما نسمعه من كلمات أقل ما توصف أنها هابطة، وإذا أردت الإنصاف قلنا إنها غير ذات معنى، وإذا أردنا استكمال الصورة قلنا أقل القليل ما يمكن أن يُطلق عليه فن، أما ادعاء الجمهور لم يعد يميز بين الغث والسمين، وإنما يركز على الصورة والجسد، وإن ذوقه فسد، فإني أربأ بذلك عن الجمهور ومنطق الاستدلال عليه يسير، وأنه عندما يصدح أحد الفنانين بأغنية طربية جميلة فإنَّ الجمهور يتلقفها بشغف، وكذلك ما زال الفنان محمد عبده يتربع على عرش مبيعات الكاسيت، وأيضاً الفنان الكبير كاظم الساهر. بقي شيءٌ واحد ربما يكون أحد أسباب هذا الهبوط، وهو أن بعض الفئات المتشددة في المجتمع تنظر للفن والجمال نظرة دونية وسوداوية، وأخرى أكثر تطرفاً تجرَّمه وتحرمه، وهذا بلا شك يؤثر على نفسيات الجمهور والفنانين وانعكس على أدائهم، على عكس ما كنا نسمع من أنَّ الفن رسالة. ما الذي حدث لنا في السنوات الأخيرة؟ ما الذي دفع البعض إلى البحث في بطون كتب التراث سعياً وراء حديث آحاد ضعيف هنا، أو فتوى فقيه بلا سند هناك، ولا يجد حرجاً في الإفتاء بأنَّ سماع موسيقى «بيتهوفن» قبل النوم أو حتى بعده حرام، تاركاً إيانا نضرب كفاً بكف، ونحن نتساءل عن علة التحريم، وعن مكان هذا الإنسان الوهمي التي تتهيج غرائزه وينبض عرقه ويتحرك ساكن عند سماع بيتهوفن ويفسد طبعه عند سماع أم كلثوم. إن الإسلام دين الفطرة، فطيور الكناري تغني، والعصافير تُغّرد، والكتب السماوية نقلت لنا حديث مزامير داوود وترانيم الملائكة. إن الموسيقى والمسرح والتمثيل والنحت وعموم الفن ترتقي بالوجدان وتسمو بمشاعر الإنسان، وأنّ منْ لا تعرف الموسيقى طريقاً إلى قلبه لن تعرف الرحمة طريقاً إلى سلوكه. [email protected]