المشكلة التي تواجه السلطات اللبنانية في التعاطي مع عرض الانسحاب الإسرائيلي من بلدة الغجر هي مجرد نموذج لما يمكن أن يواجه هذه السلطات من مطبّات ومشاكل في حال أقدمت إسرائيل، طوعاً أو احتيالاً أو خضوعاً لضغوط دولية ما، على الانسحاب من باقي الأراضي التي يعتبر لبنان انها أراضيه المحتلة، مثل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. قد يبدو لمن لا يعرف الطبيعة الجغرافية لهذه المنطقة أن مشكلة لبنان مع بلدة الغجر هي مشكلة طرفها الآخر هو إسرائيل وحدها، ليتبين عند التدقيق في الأمر أن هذه مشكلة لبنانية سورية بقدر ما هي مشكلة مع الجانب الآخر من حدود هذه البلدة، بل هي قبل كل ذلك مشكلة مع سكان البلدة أنفسهم. فالغجر بلدة مواطنوها سوريون في الأساس، إذ أن إسرائيل احتلتها مع مرتفعات الجولان عام 1967. وبعد ضم هذه المرتفعات الى إسرائيل عام 1981 فرضت الجنسية الإسرائيلية على سكان هذه المناطق، فصار الوضع الآن أننا أمام أرض لبنانية، على الأقل في القسم الشمالي من البلدة، بحسب الترسيم الدولي للخط الأزرق الذي تقر الأممالمتحدة انه الحدود اللبنانية الإسرائيلية، لكن سكان الغجر بشمالها وجنوبها، الذين يصل عددهم الى حوالى 3 آلاف شخص، هم إسرائيليو الجنسية، ولا يبدو أن جنسيتهم هذه تمثل مشكلة بالنسبة إليهم، بدليل التظاهرات التي قاموا بها للاعتراض على احتمال استعادة لبنان للقسم الشمالي من قريتهم، ولإبداء حرصهم على الاحتفاظ بالخدمات الطبية والتعليمية والانمائية التي توفرها إسرائيل لهم، والتي لن يستطيع لبنان توفيرها حتى لو كان بإمكانه ذلك، بسبب وجود معظم مراكز الخدمات هذه في القسم الجنوبي الباقي تحت الاحتلال الإسرائيلي. أما في ما يتعلق بملكية سورية لأرض البلدة وحرصها على استعادة الهوية السورية لأبنائها، فقد عبرت دمشق صراحة عن رغبتها في الاحتفاظ بالغجر عندما وجهت كتاباً الى الأممالمتحدة في أيار (مايو) 2006 (وكانت البلدة لا تزال بكاملها تحت الاحتلال الإسرائيلي) تطالب فيه بعدم تقسيم الغجر من أجل عدم الفصل بين أبنائها، كونها قرية سورية. بدل مواجهة هذا الوضع المعقد ومحاولة البحث عن حل لوضع سكان الغجر على أمل استعادتهم الى هويتهم العربية، لبنانية كانت أم سورية، يغرق اللبنانيون الآن في جدل بيزنطي حول أهداف إسرائيل من الرغبة في الانسحاب، ومدى تأثير ذلك على وضع المقاومة و«حزب الله» في لبنان. السؤال الدائر هنا ببساطة هو: هل يمكن أن تكون الرسالة الإسرائيلية وراء هذا الانسحاب أن هناك طرقاً أخرى لتحرير الأرض غير الطريق التي تسلكها المقاومة؟ والى أي مدى يمكن أن يؤثر الانسحاب المحتمل من الغجر على الشرعية التي تتمسك بها المقاومة لعملها في لبنان؟ ثم ... هل يعتبر وجود القوات الدولية في القسم المعروض تحريره من الغجر بمثابة استعادة للسيادة اللبنانية عليه، أم انه مجرد استبدال الاحتلال الإسرائيلي بانتداب دولي، كما وصفه أحد المسؤولين في «حزب الله»؟ الرئيس نبيه بري أسرع الى قطع الطريق على التأويلات الممكنة للخطوة الإسرائيلية، مؤكداً «سوف نبقى نردد ومن بوابة الغجر هذه المرة أن المقاومة لا تزال تمثل حاجة وطنية وقومية في مواجهة العدوانية الإسرائيلية ونقطة على السطر». أما النائب عن «حزب الله» محمد رعد فقد حذر من «مناورة إسرائيل وخداعها» بهدف إظهار الانسحاب من القسم الشمالي من بلدة الغجر وكأنه تنفيذ للقرارات الدولية وعلى الأخص القرار 1701. لبنان في وضع صعب مع قضية الغجر. وضع قد يبدو معه التعامل مع استمرار الاحتلال أسهل من التعامل مع الانسحاب. فالانسحاب يطرح أسئلة ويخلق مشاكل، فيما الاحتلال يريح الجميع من مواجهة هذه التعقيدات.