سد «تبالة».. منجز بلا طريق !    وزير الموارد: إنجازات المملكة في المسؤولية الاجتماعية «قصة تحول وتمكين ملهمة»    بيع صقرين بأكثر من 300 ألف ريال في الليلة العاشرة لمزاد نادي الصقور السعودي 2024    رودري يتوج بلقب جائزة الكرة الذهبية لعام 2024    نيوم يتغلّب على أحد ويتصدر دوري "يلو" لأندية الدرجة الأولى    3 يتنافسون على أفضل لاعب في آسيا    الاتحاد السعودي يتحدى العربي القطري    قطبا الرياض يطمعان في الكرم الحاتمي وسكري القصيم    القادسية يتأهل لربع نهائي كأس الملك بعد تغلّبه على الوحدة بثنائية    «الشورى» يطالب هيئة الإحصاء بتقييم خطط تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للتنمية    اختتام برنامج الدراسات التأهيلية للقادة الكشفيين    هذه الحالات يسمح فيها بأداء الامتحانات «عن بُعد»    أنجلينا جولي تُعيد إحياء ماريا كالاس في فيلم «ماريا»    5 عادات تخلص منها للاستيقاظ بنشاط وانتعاش    «الصحة العالمية»: الارتجاجات المخفية.. تتلف المخ    6 أمورإن سببت لك التوتر.. «كلم مديرك» أن العمل مُرهِق    لكل سعودي.. الحذر الحذر!    الانتخابات الموازية    «كاميلا هاريس» المرتبكة !    الإسعاف الجوي ينقل مصاباً من الصحراء    دور سعودي قيادي في مؤتمر المانحين للساحل وتشاد    باتجاه الرياض    «التراث» تعتمد تسجيل 500 موقع في سجل التراث العمراني    «الروع».. جهل وخرافة    الغموض يلف مصير الأسرى الإسرائيليين    حقوق الأميّين الرقميين وهيئة مكافحة الأميّة الرقمية    أموريم يقترب من تدريب مانشستر يونايتد    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    الذهب يتراجع مع ارتفاع الدولار وتزايد مخاطر تباطؤ الاقتصاد    استطلاعات الرأي لاعب أساسي في الانتخابات    مصير أوكرانيا يعتمد على رئيس أمريكا الجديد    17% نسبة استخدام الطاقة المتجددة بالشبكة الخليجية    فريق تعافي جازان يشارك بركن توعوي تزامنًا مع شهر التوعية بسرطان الثدي    «التخصصي»: استئصال بؤرة صرعية عنيدة    المهنا: زيارة الجبل الأسود تجسد حرص المملكة على دعم المسلمين    الراجحي: إنجازات المملكة في المسؤولية الاجتماعية «قصة تحول وتمكين ملهمة»    أمير الشرقية يستقبل السفير القيرغيزي    مناقشة تطوير اتفاقية تنفيذ الأحكام بين دول الخليج    50 مشروعاً علمياً على منصة «إبداع الطائف 2025»    الشورى يطالب بدراسة ظاهرة زيادة حوادث دراجات التوصيل    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    حرس الحدود بمنطقة جازان يحبط تهريب (120) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر    أمير عسير يُدشّن ويضع حجر أساس 87 مشروعًا مائيًا وبيئيًا بكلفة تجاوزت 5.2 مليارات ريال    التوصيات الختامية للقمة العالمية للبروتك    الابتكار ركيزة أساسية لتحقيق رؤية 2030    المملكة تحقق قفزة خضراء جديدة بانضمام محميتين للقائمة العالمية    وزارة الصحة تعتبر التوعية بشأنه أمرًا ضروريًا للحد من انتشاره وآثاره    مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يُعلن أسماء الفائزين بجائزته في دورتها الثالثة    تحويل الدراسة والاختبارات العملية اليوم عن بعد في المدارس المسائية والتعليم المستمر بالعاصمة المقدسة ومحافظات الجموم وبحرة والكامل    مذكرة تفاهم بين محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ووزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية    إزالة مبانٍ لصالح جسر الأمير ماجد مع «صاري»    كبسولة النمو المالي    شتّان بين الضغائن والخصومات    8 أمور إذا شعرت بها.. غيِّر أصدقاءك فوراً !    وكيل الأزهر يشيد بجهود مجمع الملك فهد لطباعة المصحف    أمير الرياض يستقبل السفير الياباني.. ويعزي الدغيثر    أنا والعذاب وهواك في تكريم عبدالوهاب..!    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدن الذكريات
نشر في الحياة يوم 11 - 11 - 2010

مرهقة هذه المدن؛ مدن الذكريات، إذ تمرّ على أماكن الركضات الأولى، وعلى مسقط رأسك، وعلى نزيف وجودك الأول، تطلق قدميك مع الريح، ماشياً ما بين دكاكين طمست، ومساجد هدمت وتحولت إلى زخرف من البناء غروراً، تشاهد تلك الوجوه التي كانت بجوارك في صفّك المدرسي وقد كبرت، صاروا يجرّون معهم أبناءهم، إيذاناً بانتهاء رحلة الطفولة نهاية أبدية، إنها المدن والوجوه التي تبثّ الذكريات وتعجز عن ولادة المستقبل.
في إحدى مدن الذكريات جلست مع روائي سعودي أسأله بأمل الشباب الذي يطوّقني عن آخر أعماله، وعن مخططاته، صمت لبرهة، ثم قال لي: «أنا الآن أعيش مع الماعز، والكتابة صارت مملة بالنسبة إلي».
روى لي أن ثقافة الموت والإزهاق والسحق التي تظلل المتشددين من المجتمع السعودي والنجدي خصوصاً جعلته يرجع إلى رغبته الأولى التي كانت هي محركه الأوّل، رغبته كانت أن يرعى النعام في صحراء الدهناء بعد أن تقاعد من مهنة التدريس، لكنه الآن يقضي معظم ساعات يومه ما بين ناره، ويعالج الماعز ويتعهدها بالأدوية والعشب، زرته في آب (أغسطس) في مزرعته، كانت النار تشتعل في عزّ الصيف والشاي على الموقد، فوق شحنة من التراب، إنها مشاهد شاعرية بامتياز.
بتأمل المدن التي أنجبت الكتّاب والشعراء العرب نعثر على تاريخ من الذكريات، من المنصورة التي أنجبت عبدالرحمن بدوي، إلى قصابين التي أنجبت أدونيس، إلى قرية السلامية التي أنجبت محمد الماغوط، إلى بور سعيد التي أنجبت فؤاد زكريا، وبنغازي التي صدمت الصادق النيهوم، إلى الأحساء التي أنجبت غازي القصيبي، إلى الطائف التي نبتت فيها القصائد الأولى لمحمد الثبيتي، وصولاً إلى بيروت التي أنجبت يوسف الخال، وفاس التي أنجبت محمد بنيس، إلى أبها التي أنجبت الشاعر المتمرد الرافض عبدالله ثابت، تلك المدن فقّست عبقريات طفولة ترفض الكبر، فكتبوا تاريخ مدنهم في أشعار حفظت ما تبقى في تلك المدن من تاريخ، احتفظوا بمشاعر طفل تجاه أشيائه فحضرت تلك المدن في ما كتبوه؛ ولكن عبر طيف من الوصف لذكريات يستحيل أن تعود.
صفعة العصر التي تلقتها فلول من نخب العرب والخليج ساهمت في دفعهم نحو رؤى كثيرة، أخطرها تلك التي تبحث عن سمّ إبرة تخرج من خلاله عن مجتمعاتها باحثةً عن دروب الخلاص من تلك المسافة التي يرونها بين مدنيّة مدوّية جذابة، وبين مدن الذكريات التي يرون فيها تاريخ أطلال زائل، باحثين عن قطيعة وهميّة تريد أن تفسخ من خلالها أواصر الطيف والخيال كافة التي أمدّتهم بها تلك المدن التي رانت على جبهتها تجاعيد الزمن وصدمات العصر التي لم تهضمها مدن الذكريات العربية، والخليجية بالذات.
بحثوا بكل سعي عن أسبابٍ تذهب بهم إلى عالم ينسيهم مدنهم التي ركضوا فيها أوّل مرة، فدمّرت المدن المزيّفة مشاعر مديونية معنوية كانت يمكن أن تتحول إلى صورٍ غنيّة تدفع رؤاهم وكتاباتهم لتكون مطعّمة بذواتهم وبدواخلهم، المدن التي نسكنها حينما نغادرها لا تفتأ تسكننا، تختلط بأحبار أقلامنا وتساهم في وزن رؤيتنا للعالم كله.
تقودنا مفازات الحياة إلى مدنٍ أخرى نرى فيها مستقبلنا العملي أو العلمي، وربما نكمل السكن فيها طوال السنين التي تبقّت لنا من مدد الحياة، لكن العظمة أن تبقى مدننا ممتزجةً بتجاربنا العلمية والدنيوية.
رأيتُ الكثيرين ممن أنكروا انتماءاتهم وحاولوا أن يقطعوا جذورهم الأولى رغبةً في تحسين سحنة الوجه يرغبون في إيجاد علاجٍ لما يرونه خطيئة انتماءٍ لمدنهم الأولى، يكتبون بلغةٍ ركيكة خلاصات لمترجمات أو لتحليلات، منكرين أي اتصال يربطهم بجذور مدن الذكريات؛ خلت كتاباتهم من روح الذات وسحر العودة إلى خيال المدن، فلم تعترف بهم مدنهم المزيّفة، ولم يستثمروا أحلام ركضاتهم في مدنهم الأولى... انقرضت كتبهم؛ صارت في ذمم التخزين.
وإذا تصفّحنا ما أنجزته الفلسفات الغربية والنظريات الكبيرة المشيّدة نعلم أن تلك النظريات نبعت من أحداث الواقع، من الثورة الفرنسية إلى الحربين العالميتين، إلى سقوط الكنيسة وانهيار جدار برلين، إلى الثورة الأميركية، لهذا بقيت تلك الكتابات أثيرةً لدى البشر، لأنها انطلقت من تلك المدن، من برلين وفرانكفورت ولندن وأثينا، كتابات بعض الطامحين إلى القطيعة تفتقر إلى الروح... روح رغبة ذلك المثقف والروائي الجميل الذي لم يقطع صلته بذكرياته، انطلق برفضه من مجتمع، لكنه رفض الراغب في الوصل، وقطيعة الطامح لاتصال مجتمعه بالعصر.
يكتب الماغوط عن قريته: «سلمية، الدمعة التي ذرفها الرومان، على أول أسير فك قيوده بأسنانه، ومات حنيناً إليها، سلمية الطفلة التي تعثرت بطرف أوروبا، وهي تلهو بأقراطها الفاطمية، وشعرها الذهبي، وظلّت جاثية وباكية منذ ذلك الحين، دميتها في البحر، وأصابعها في الصحراء».
تلك هي مدن الذكريات، التي نتعلق بها حتى لو همسنا بأذنها وهي تحرس سكّانها ليلاً: «آسف يا مدينتي، لم أتوقّع كل هذا».
* كاتب سعودي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.