تعد أحداث ال11 من أيلول (سبتمبر) تاريخاً مفصلياً في الرواية السعودية، فقد برزت محاولة الروائيين استنطاق المسكوت عنه. فتناولوا موضوع الإرهاب والتطرف. وقاربت رؤاهم الواقع المعاش، من خلال اهتمامها بالتفاصيل والأحداث والعلاقات الاجتماعية والإنسانية، كما اهتمت بواقع المراكز والهيئات الدينية والعادات والتقاليد، وأبرزت دور الخطاب المتشدد وتأثيره السلبي. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن أن نذكر منها الروايات التالية: رواية «صدفة ليل» للروائي عبده خال، ترصد الرواية التحولات التي طرأت على المجتمع السعودي في العقود الأخيرة، وانتقاله من حال الهدوء والدعة والتسامح إلى الصخب والعنف والتطرف، مركزاً على تأثير الحركات الإسلامية المتشددة. رواية «فتى متطرف» للدكتور محمد عبدالله العوين، وركزت الرواية على تأثير الجماعات المتطرفة في فكر الشباب. رواية «الإرهابي 20» للروائي عبدالله ثابت، تناولت دور المراكز الصيفية في تجنيد الشباب ودفعهم إلى الجهاد. رواية «ريح الجنة» للروائي تركي الحمد، صورت الرواية حياة المنتحرين الباحثين عن الجنة والحور العين، ركزت الرواية على خلفياتهم الاجتماعية والثقافية والدينية. ركزت الروايات السابقة - شأنها شأن غالبية روايات الفترة - على الإرهاب والتطرف وانتشار ظاهرة التشدد والتكفير، وتدني وضع المرأة وتحجيم دورها. كانت الروايات في مجملها عبارة عن خطابات موجهة إلى الداخل، تحمل الاتهام والتنديد والتحذير، كانت خطابات مكاشفة تجعل الذات في مواجهة ذاتها، تحمل دعوة إلى إيقاظ العقل والتفكير المنطقي السليم. ولكن على رغم التسليم بوجود فئة تدفع الشباب بخطاباتها المضللة نحو هاوية التشدد والإرهاب والتطرف، فإنه من الخطر على المجتمع تقبل فكرة سيادة العنف والتطرف فيه واختزاله في الذكورة والدموية وعشق الموت، وإغفال جوانب الإيجاب، لذا يحمل الأمن الفكري هماً آخر وبعداً آخر غير قضية التحذير والتنبيه إلى خطر الفكر الضال المضلل. همّاً يتمثل بإبراز حقيقة هذا المجتمع المسالم وجوانبه الإنسانية المشرقة، مجتمع متفهم متعايش مع الآخر محب للحياة. وهذا ماحملته رواية «جانجي» لطاهر أحمد الزهراني، وقد تكونت من خمس لوحات عفوية بسيطة يتصاعد فيها الجانب الإنساني العميق من خلال علاقة صديقين يتذكرها أحدهما بعد خروج الآخر من أفغانستان وتورطه في سجن قلعة «جانجي»، ثم وصوله إلى معتقل غوانتانامو، وتتدفق الأحداث من خلال سرد الصديق ومراسلته صديقه وإيراد المشاعر الإنسانية العميقة التي تؤكد أن ذلك السجين المتهم بالإرهاب ما هو إلا شاب لم يخرج للقتال والجهاد، وإنما دفعته المثالية والرغبة في مد يد العون والمساعدة، شاب يحمل كل مشاعر الحب والسلام، يملك الذكريات والأغنيات، ولكنه افتقد التوجيه فحاد عن الطريق الصحيح. رواية «جانجي».. الغلاف والمحتوى تتظافر في رواية «جانجي» صورة الغلاف ومحتوى الرواية على خلق صورة سوداوية قاتمة، فالغلاف بلونه البني يغطي معظم الصفحة، إلى جانب لون الصخور الرمادي المائل إلى السواد بأشكاله الحادة، إضافة إلى ما تحمله الصخور من صعوبات وما تستبطنه من قسوة تُنبئ بسوداوية محتوى الرواية. على حين يشير عنوان الرواية «جانجي»، مع غرابته، إلى أمرين؛ الأول: دلالة المكان، ف«جانجي» قلعة حصينة ذات أدوار متعددة وسراديب وغرف تقع شمال أفغانستان، وعلى رغم أن دلالة القلعة عامة تشير إلى التحصن والمنعة؛ فإنها أيضاً تستبطن خوفاً وقلقاً دفعا إلى الرغبة في التحصن. أما الأمر الثاني فيشير إلى ترجمة لفظ «جانجي» بالقتال5، فتتقاطر من هذه الترجمة دموية الفعل وتعدد الفاعل والمفعول؛ لذا كتب الجنس الأدبي «رواية» أسفل العنوان باللون الأحمر لون الدم، لون الموت والكذب والخيانة. على حين اعتلى صفحة الغلاف اسم المؤلف حاملاً ببياضه معاني التطهير مما حصل، والحمد على ما حصل «طاهر أحمد». وبذلك يُعد غلاف الرواية، بغرابة عنوانه وقتامة ألوانه، إعلاناً وإشهاراً بصرياً يكشف عن سوداوية وقتامة محتوى رواية تُعد أفغانستان أرضها وميدانها. تحمل الرواية رسالتين؛ إحداهما موجهة إلى الداخل، هي رسالة تحذير، والرسالة الأخرى موجهة إلى العالم الخارجي، العالم الذي تغافل عن الجانب المشرق منا بوصفنا شعباً، واختزلنا في الإرهاب والتطرف والعنصرية، لذا حمل العنوان وصورة الغلاف والمحتوى خطابات إشهار وتحذير. عنوان الرواية: يختصر عنوان الرواية «جانجي» القلعة في رواية، إذ دمرت ومحيت من الوجود وأصبحت مجرد رواية، القلعة العتية بكل ما تحمله من دلالات القوة والمنعة اُختصرت في رواية، إذ انتهت القلعة بانتهاء فصول الرواية بعد أن دكت جدرانها الطائرات الأميركية، قُصفت بالقنابل، ضُربت بالصواريخ، أُغرقت سراديبها بالزيت والماء، لم يبق منها إلا صورة الموت والدمار، لتظل شاهداً على الخيانة والغدر بالعرب، الذين قدموا لنصرة إخوانهم. «فأناس منهم ماتوا في المواجهة الأولى مع أفراد (رستم) عندما علموا بالخيانة. - آخرون ماتوا عند الاشتباكات مع الأعداء. - غيرهم مات في خط الدفاع داخل القلعة. - كثير ماتوا عند القصف الأميركي لهم. - والبقية يلاقون ألواناً من الموت خنقاً بالدخان وغرقاً بالمياه وموتاً من الجوع». ونجا القليل ليكونوا شهوداً على تفاصيل خيانة وإعلان عما انتهى إليه مصيرهم، لذا «أخذوا يخرجون من ذلك القبو وهم يعانون ألم الهزيمة وألم الخيانة، وألم الخذلان، الذي ملأ قلوب من يدعون الإسلام... رضخ خالد لذلك الجندي الأميركي، الذي أخذ في وضع ذلك السواد على عينيه، بينما أحد الأفغان يضع السلاسل في أقدامه ويديه». التقط الراوي هذه الأحداث مركّزاً على الخيانة والغدر التي ألحقت بمن ظن أنه خارج للجهاد، بعد أن حولها إلى تجربة يعيشها المتلقي ليشعر بألم الهزيمة وانكسار الأسر وذُلّه وخطر الخروج من دون وعي وإدراك للعواقب. يمتاز محتوى الرواية بملامسة الجوانب الإنسانية بلغة عفوية بسيطة، لغة اعتنت بالهّم الإنساني، كما اعتنت بالقيم الإنسانية. استندت الرواية إلى أحداث واقعية حقيقية في غالبيتها تنقلنا إلى فضاءات عدة محملة بأمكنة وأزمنة مختلفة. تدور أحداث الرواية في أفغانستان، وتتركز بؤرة الحدث في قلعة «جانجي»، حيث الموت والخيانة والدمار، ثم يتراجع الزمن من خلال تقنية الاستذكار والاسترجاع، الذي يقودنا إلى مدينة جدة حيث حياة الراوي وبطل الرواية، ثم توظيف تقنيات عدة لإضفاء مزيد من الواقعية على النص، فاستخدام الرسائل الورقية وتقنيات التواصل، وبخاصة الرسائل الإلكترونية والمحادثات، إضافة إلى ذكر الأماكن «شارع قابل، التحلية، كوبري المربع، الروضة، الخالدية، حي غليل، الهنداوية، السبيل...» فيتنقل ذهن المتلقي بينها، واضعاً ملامحها قيد البصر بكل ما فيها من جنسيات وأعراق مختلفة مختلطة، مدينة اختلفت أعراق قاطنيها وتوحدت حبّا وولدت تسامحاً وتقبلاً للآخر، لا إرهابا وتطرفاً. أعلت الرواية مكانة القيم الإنسانية على رغم أحداثها المؤلمة، وقدمت صورة إيجابية مشرقة عن مجتمع مفعم بالحيوية مقبل على الحياة، وساعدت الرسائل المتبادلة بين الصديقين - في أحلك الظروف وأخطرها - في نقل مشاعر الصداقة والأخوة والحب والتسامح والشجاعة والإيثار، كما أعلت الرواية شأن المرأة وصورتها، فلم تكن مجرد أنثى تداعب المشاعر وتُدغدغ الأحاسيس؛ وإنما شريك يتحمل المسؤولية، ويعرف دوره في المجتمع، يقدم المساندة والمساعدة، المرأة في الرواية هي عزيزة ابنة العم الوفيّة، وسارة ابنة الجار المساعدة والمساندة في وقت الأزمة، تظهر المرأة في الرواية شخصية ثانوية، ولكنها امرأة نقية لم يُمس جوهرُها، الذي اعتاد البعض خدشه. بهذه الصورة الإيجابية كسرت الرواية الصورة النمطية التي تختزلنا - شعباً ومجتمعات - في الإرهاب والعنف والتوحش وحب الموت والذكورة، إنها رسالة موجهة إلى العالم الذي أظهرنا متعاطفين آيديولوجيين مع الإرهاب. وزاد انتشار هذه الرؤية الإيجابية بعد أن ترجم الدكتور أبوبكر باقادر الرواية لتصل إلى الآخر. تحمل الرواية - بطريقة غير مباشرة - إدانة للأصوات المضللة التي دفعت شاباً مفعماً بالحياة والحيوية من شوارع جدة إلى أفغانستان، ومن ارتياد مطاعم «فدركرز» و«تشيلز» واستخدام أشهر ماركات العطور، إلى أكل العفن لأن الجوع لا يميز بين العفن وغير العفن. الإنسان الذي لم يتعود أن يمسك قضيباً من الحديد11 فكيف دفعته الظروف إلى أن يمسك رشاشاً عيار 70؟! حثتهم الأصوات المضللة، ودفعتهم المثالية والرغبة في مد يد العون للخطر والمجهول «لم يخرج للقتال وإنما زُجّ به للقتال... لم يأت إلى أفغانستان للحرب بل أتته الحرب وهو في أفغانستان.. خرج خالد القرشي لمد يد العون ومعالجة المصابين والمرض» انتهت به الحال في أفغانستان مقاتلاً مدافعاً عن نفسه، ثم في كوبا أسيراً ذليلاً في غوانتانامو. وهكذا تصبح مجزرة «جانجي» رسالة تحذير، وتظل صورة غلاف الرواية وسوداوية المحتوى وقتامته ملتصقة بالذاكرة عالقة بالذهن، كي لا تكرر مأساة «جانجي» أخرى في بقعة أخرى من العالم. وهكذا نجح الروائي طاهر أحمد الزهراني في ملامسة الجوانب الإنسانية، بعد أن ارتفع بها إلى فضاء المفهوم الذي اكتسب صفة النموذج، وأصبح إشارة إلى قضية لا تشغل مبدعها فحسب، بل تشغل وطناً متجاوزاً بذلك مهمة نقل الخبر إلى مهمة يلج بها دائرة الفهم والإدراك. باحثة وأكاديمية سعودية.