تسعى الشاعرة الأميركية، من أصل فلسطيني، ناتالي حنظل، في ديوانها الجديد «حب وخيول غريبة»، الصادر حديثاً بالإنكليزية عن منشورات جامعة بيتسبرغ، إلى رأب صدع حضاري وروحي وثقافي لا يفتأ يتّسع ويمتدّ بين ضفّتي الأطلسي، منذ وقوع أحداث الحادي عشر من أيلول(سبتمبر) 2001، عبر تقديمها خطاباً شعرياً مركّباً، يتجاوز ازدواجية الغرب والشرق التقليدية، وينأى بنفسه عن عقلية التنميط الجاهزة التي تفترسُ إنسانية الإنسان، وتؤطّره داخل مفاهيم وتعريفات أزلية، تقتل التنّوع والكثرة في مفهوم الهوية والانتماء. خطاب شعري، يركّز، بالصور والرموز والاستعارات، على جوهر الإنسان الفرد في علاقته بأناه، خارج الأطر الثقافية والتاريخية، وينسجُ على منوال الروّاد الأوائل من شعراء المهجر العرب في أميركا، الذين أسّسو لبداية حوار متقدّم وخلاّق بين الشّرق والغرب، وتحديداً منذ صدور رواية أمين الريحاني الرائدة «كتاب خالد»، عام 1911، مروراً بقصائد إيليا أبو ماضي ذات النزعة الإنسانية، وصولاً إلى كتاب «النبي»، (1923)، لجبران خليل جبران، بنبرته الصوفية ورؤياه الكونية التي كان لها الأثر العميق في جيل الستينات في أميركا، عبر إزكاء روح التمرّد ضدّ عقلية المؤسسة الحاكمة، والموروث الفكري المهيمن. موروثٌ تفهمه جيداً الشاعرة حنظل وتوظّفه في قصائدها بوصفه اللاّوعي الشّعري الذي يؤسّس لحساسيتها الشعرية وحساسية جيلها بأكمله. لاوعيٌ يعرف كيف يبتكر تناغماً بين روح أنكلوساكسونية، أنيقة، تُمليها طبيعة اللغة الإنكليزية، ونزوعها نحو التقشّف والدقة والوضح، وبين روح الشاعرة المشرقية، المتأجّجة، التي لا تكتب فقط بعاطفتها وحدها، بل تصغي ملياً إلى نداء العقل الباطن، وإلى ذاك المخزون المدهش والمباغت من القراءات والتجارب التي تتيح لها اصطياد لحظات شعرية فريدة، تمليها السليقة تارةً، والدُربةُ الأكاديميةُ طوراً، عبر استحضار معاني المنفى والحبّ والهوية في عالم يزدادُ قسوةً وتوحّشاً. لا تتوقّف حنظل في ديوانها عند تلك الأصول الأدبية والفكرية، في أدب المهجر، بل تنفتح على تجربة الحداثة الشعرية العالمية، وتتخطّى الحدود الثقافية، بحكم نشأتها في بيئة ثقافية معقّدة، زاوجت بين الإرث المشرقي، من خلال انتمائها لمدينة بيت لحم الفلسطينة، وبين روافد وفروع الثقافة الغربية، الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، التي تأثرت بها من خلال نشأتها الموزّعة بين جزر البحر الكاريبي حيث ولدت، وبين فرنسا وأميركا الشمالية، حيث شبّت وترعرعت. من هنا ليس غريباً أن نعثر في ديوانها على أصداء واقتباسات كثيرة من لغات وثقافات عدّة، تتصدّرها قصائد محمود دوريش، الأكثر حضوراً في لغة وأسلوب حنظل، إضافة إلى أوكتافيو باز، وغارثيا لوركا، ولويس بورخس، ويانيس ريتسوس، وأخماتوفا، وسواهم، حيث نجد الاستفادة القصوى من تقنيات هؤلاء، وبخاصة ميل الشاعرة إلى كتابة نصّ ينتمي إلى تيار الواقعية السحرية، بما يمثّلهُ من رغبة في أسطرة اليومي والعابر، وتظهير التجاور الخلاّق بين العادي والخارق. خرافة شعرية وهذا ما تكشف عنه قصائد ديوانها الجديد التي تنطوي على حنين عارمٍ إلى جنّة مفقودة، فردية وكونية، شخصية وتاريخية، تتمحور حول مفهوم الحبّ، بمعنييه الحسّي والرّوحي، والذي تحوّل بفعل شراسة التّاريخ إلى خرافة شعرية، لا زمان لها ولا مكان، تدلّلُ عليه الشاعرة بعبارة افتتاحية اقتبستها من بورخس تتصدّر ديوانها، وتشير إلى أن «الخرافةَ هي بدايةُ الأدب ونهايتُهُ أيضاً»، تقرنُها باقتباس من درويش، يتحدّث فيه عن تحوّل الحبّ إلى فكرة، أو خرافة تتحجّر، ثم تدعمها بشذرة شعرية من أوكتافيو باز تشير إلى أنّ ما نسمّيه الواقع ليس سوى الوهم الذي ننسجهُ بخيالاتنا، حيث «الضّباب هو وحده الحقيقي». عن هذه الخرافة التي تحوّلُ الجسدَ إلى خطاب، والحقيقة إلى استعارة، والواقع إلى ضباب، تنسج الشاعرة قصائدها، التي جمعتها في حركات شعرية ثلاث، تضفي نوعاً من البناء السيمفوني على ديوانها، وتُظهرُ الزّخمَ الإيقاعيّ الدّاخلي للقصائد بوصفه قيمة درامية موازية تؤطّر بنية النصّ، وتمنح الصوت الشعري خاصّية موسيقية إضافية تعكس خبرة حنظل كمؤلّفة وممثلة مسرحية أيضاً. تسمّي حنظل قصائد الجزء الأول من ديوانها «انتماء» مستخدمةً المفردة العربية ذاتها، من دون ترجمة، وتعود إلى بورخس مرة أخرى لتمسك بجذوة فكرتها التي تنطلق من مفهوم الانتماء إلى ماض لا يكفّ عن صوغ حياتنا، بما أنه الفصل الملائم لولادة الميثولوجيا، بحسب بورخس، والمنبع لكلّ فكرة عن الهوية أو الأنا. هذا الانتماء يترجم نفسه كصيغة حنين أو نوستالجيا للبحث عن جذور باتت نهباً لسردية يصوغها التاريخ على طريقته كما تقول حنظل في قصيدتها الافتتاحية «نيرانٌ على الجبل الحرّ»: «للتاريخ طريقتُهُ/ في تحريك القلبِ إلى الوراء». يطاردُنا الماضي، بأخيلته وأشباحه ورؤاه، ويصوغ كثيراً مفهومنا عن أنفسنا، وهذا ما تؤكّده قصيدة أخرى مهداة إلى محمود درويش بعنوان «على الأطلال» تستعيدُ فيها صورة الراحل درويش، الحاضر الغائب: «أتخيّلُ جسَدَه أمام الموج/ وقربهُ صخرةٌ، وكلماتٌ مشدوةٌ حولها». تستخدم الشاعرة لغة هامسة مفجوعة لا تخلو من رثائية خفيضة تنعي نهايات كثيرة، في الحب والحياة والتاريخ، حيث الشعور بالفقدان لا يغادرُ شفاه المتكلّمة في قصيدة أخرى بعنوان «عن النهاية» إذ تقول: «تلك هي/ الساعات التي تركْتُها خلفي/ تلك هي/ الهمساتُ التي وطأتْها قدماي بالصدفة». إنه الانتماء إلى ماضٍ، متحرّك، متبدل، يصنع خرافته على طريقته، ولا ينضح من ثناياه سوى الخسران. من هنا نجد لغة الشاعرة مسكونة بعاطفة مشبوبة، تكسر جليد اللغة، وتُبرزُ توهّج الرّغبة وتمرّدها ضدّ المفاهيم المستقرة، المتحجّرة، كما في قصيدة «حب وخيول غريبة»، التي تختتم هذا الجزء. وواضح هنا أنّ الخيول، التي تحيل، رمزياً، إلى حصان درويش، المتروك وحيداً، تشير إلى استحالة امتلاك الماضي، ذلك أن الماضي يتحوّل باستمرار إلى سردية مفتوحة، أو حكاية ناقصة، أو ربّما أسطورة متحجّرة. في قصائد الجزء الثاني أو الحركة الثانية، مزيجٌ من التجريد والحسّية المفرطة التي تريد تأكيد واقعية الجسد، قبل أن تكفنه الاستعارة، وتحيله إلى فكرة، وسعيٌ لتمجيد الحبّ كفكرة مجردة ومعزولة عن سياقها التاريخي: «دعنا نقول إنك دعوتني إلى رائحة الشهوة/ وتركتَ الشمسَ تهوي بين أرجلنا/ هل سيكون هذا كافياً/ أم أنّ الحبّ يظل أكثر غرابةً». الحبّ الأكثر غرابة، هو امتداد لرمزية الخيول الغريبة، في عنوان الديوان، لكنه أيضاً يشكّل وسيلة دفاعية ضدّ العزلة، في أعمق وأقسى معانيها، كما في قصيدة «أحمد»: «أهمسُ باسمكَ/ أحمد، أحمد/ لأُقلِقَ راحةَ العزلة». هذا الهاجسُ يبرز في القصيدة الأخيرة من هذا الجزء، حيث تتساءلُ الشاعرة عن مصير خيولها الغريبة، وترثي حواسها الخمس كعاشقة يصعقها اضمحلال الحبّ وسقوطه المطّرد في شرك التجريد: «هل هذه، الآن، هي مرثيةٌ للخيول الغريبة/ شبقٌ يتوارى خلف جسدٍ من الأسئلة». النبرة الرثائية على وقع هذه النبرة الرثائية تختتم حنظل ديوانها، بحركة شعرية ثالثة وأخيرة، تفتتحها باقتباس من ريتسوس يقول: «عصفورٌ وقف هناك - وقال شيئاً غامضاً»، تتبعه بقصيدة تقدم فيها رؤيا كونية لخراب وشيك يصيب الأرض، حيث تغادر الأشياء والكائنات والطيور، ويقفرُ العالم، ويكبر الفراغ، مستحضرة أربعة فرسان استعارتهم من اعترافات القديس يوحنّا، يرمزون للدمار، اثنان للحرب واثنان آخران للمجاعة. في هذه القصيدة التي تحمل عنوان (العالم) نشمّ عبق قصيدة «الأرض الخراب» لإليوت، وبخاصة نعيه انهيار الحضارة الكونية، وهذا ما تؤكّد عليه الرؤيا الاستشرافية للقصيدة حيث «فرسانُ القيامة الأربعة أتوا/ والأشياءُ بدأت تتلاشى، الواحد تلو الآخر؛ والآرانبُ غادرت، والنمورُ غادرت، والعشبُ يبسَ، والعصافيرُ غادرت، والفراشاتُ غادرت، وادلهمّ وجهُ السّماء». هذه الرؤيا القاتمة تستمر في قصيدة أخرى تأخذ شكل حوار مسرحي مع يسوع تمهّد له الشاعرة برؤيا القديس أوغسطين في اعترافاته الشهيرة التي يتوسّل فيها إلى ربه بأن لا يحرمه من رؤية المخبوء والمخفي في هذا الكون. وهنا تربط الشاعرة بين تحذير أوغسطين الفردي وبين رؤيا يسوع الكونية، مشيرةً إلى جملة قالها يسوع يلخّص فيها مصير العالم: «الكونُ يرتدي كفناً». وكما في الحركة الأولى والثانية، تختم حنظل الحركة الثالثة برؤيا الخيوال الغريبة التي تحيلُنا إلى فرسان القيامة في رؤيا يوحنا، هؤلاء المبشّرون بخراب العالم، حيث الحب ينعي رحيله، والعشب يتضرّع مصغياً لبكائنا: «هل نطلب من الحب أن يعثر/ على الأسطورة المهجورة في الموسيقى/ حيث العشب يشرئبّ، معانقاً نحيبَنا». في هذا البناء السيمفوني للديوان، تقدّم حنظل رؤيا متكاملة للحب الذي يتحوّل في زمننا إلى أسطورة، أو تجريد خالص، عبر نصوص تجمعُ بين النثرة الفلسفية والترنيمة الصوفية، وتتكئ على تجريب مدروس في شكل النصّ وبنيته.