مطلع تشرين الاول (اكتوبر) الجاري أجريت للمرة السادسة الانتخابات العامة في البوسنة بعد توقف الحرب 1992-1995 نتيجة ل «اتفاقية دايتون» التي نظّمت الوضع الدستوري والمؤسساتي الجديد للبلاد، والذي لم يترك للمركز سوى صلاحيات قليلة. وكما في كل مرة كانت هناك مفاجآت. الا أن الانتخابات الاخيرة اتسمت بمفاجآت كبيرة على رأسها السقوط المدوّي لعضو مجلس الرئاسة عن المسلمين حارث سيلاجيتش، وهو الشخصية البارزة التي ارتبط اسمها بالبوسنة سواء خلال الحرب أم بعدها. فقد كانت استطلاعات الرأي تعطي سيلاجيتش أفضلية واضحة الى ما قبل الانتخابات بأيام، بينما جاءت الانتخابات لتكشف عن حصول سيلاجيتش على المركز الاخير بين المرشحين المسلمين. ومن هنا فقد تضاربت الآراء حول ما يعنيه هذا السقوط المفاجئ لسيلاجيتش بالنسبة الى المسلمين أو بالنسبة الى مستقبل البوسنة على وجه التحديد. وفي ما يتعلق بسيلاجيتش، فإن الخسارة كانت مضاعفة إذ إن حزبه «الحزب لأجل البوسنة والهرسك» شهد تراجعاً واضحاً لأنه كان يرتبط كثيراً بشخصية الرئيس، بينما حافظ «حزب العمل الديموقراطي» الذي أسسه الرئيس السابق علي عزت بيغوفيتش على وضعه، وكانت المفاجأة صعود «التحالف لأجل بوسنة أفضل» الذي رشّح فخر الدين رادونتشيتش لمنصب عضو مجلس الرئاسة عن المسلمين. وبالاستناد الى آخر النتائج التي نشرتها «اللجنة المركزية للانتخابات» في 7/10/2010 ونشرتها جريدة «دنفني أفاز» في 8/10/2010، فإن بكر عزت بيغوفيتش حصد 34,80 في المئة من أصوات المسلمين وجاء بعده فخر الدين رادونتشيتش ب 30,75 في المئة من الاصوات ثم حارث سيلاجيتش الذي حصل فقط على 24,90 في المئة من الاصوات. والسؤال الكبير هنا: ما الذي حدث بهذه السرعة لقلب استطلاعات الرأي، وماذا يعني سقوط سيلاجيتش بالنسبة الى المسلمين ومستقبل البوسنة؟ في السنوات السابقة كان سيلاجيتش يعتمد على سمعته السابقة في العمل الدؤوب مع علي عزت بيغوفيتش لإنقاذ البوسنة من المصير الاسود الذي كان يتهددها، حيث برز أولاً كوزير للخارجية ثم كرئيس للحكومة خلال الحرب 1992-1995، وبنى في الفترة ذاتها والسنوات اللاحقة علاقات دولية مع العالم من الشرق الى الغرب. وبعد افتراقه عن بيغوفيتش وتأسيسه حزبه الذي أراد أن يوسع اطاره ليشمل البوسنة، برز سيلاجيتش في السنوات الاخيرة عضواً في مجلس الرئاسة (2006-2010) ليمثل الأمل باستمرار البوسنة كدولة واحدة تصلح لأن تنضم الى الاتحاد الاوروبي. الا أن هذا «الامل» أصبح يرتبط بتقوية المركز والمؤسسات المركزية للدولة الواحدة، وهو ما كان يعني مراجعة «اتفاقية دايتون» التي أنهت الحرب في البوسنة وأقامت «الدولة الهشة» الموجودة. ولكن مطالبة سيلاجيتش بمراجعة «اتفاقية دايتون» كانت تعني اختراق «الخط الاحمر» للصرب في البوسنة، الذين حصلوا على 49 في المئة من الاراضي وعلى «جمهورية صرب البوسنة» التي لم تعد تربطها بالمركز سوى علاقة هشة. ومع نجاح سيلاجيتش في علاقاته الدولية بتكوين موقف في الاتحاد الاوروبي يضغط على الصرب في البوسنة لأجل القبول ببعض التنازلات لمصلحة دولة مركزية غدت شرطاً لقبول البوسنة في الاتحاد الاوروبي، إلا أن هذا النجاح استثمره في الاتجاه المعاكس الزعيم الصربي الصاعد للصرب في البوسنة ميلوراد دوديك، الذي نجح بواسطة حزبه (حزب الاشتراكيين الديموقراطيين المستقلين) في الوصول الى منصب رئيس الحكومة في «جمهورية الصرب». فقد صعّد دوديك من هجومه المتواصل على سيلاجيتش باعتباره «الخطر» الذي يهدد استمرار «جمهورية الصرب» بحقوقها الدستورية التي أقرتها «اتفاقية دايتون»، ولم يتوان دوديك عن استدعاء تراث الحرب في البوسنة واتهام سيلاجيتش بكونه «مجرم حرب» كي يثير مخاوف الصرب من المستقبل فيما لو قبلوا بالتنازلات التي يريدها الاتحاد الاوروبي. ومع نجاح دوديك بهذه السياسة في استقطاب الصرب الى جانبه، أخذ يصعّد في السنوات الاخيرة من تهديداته بالانفصال عن البوسنة، بل إنه مرّر في برلمان «جمهورية الصرب» قانوناً حول الاستفتاء على الانفصال في ربيع 2010. وهكذا بدا كما لو أن صعود دوديك بمواقفه «المتشددة» يعود الى مطالب سيلاجيتش ببناء بوسنة جديدة تختلف عن تلك الدايتونية. ومن ناحية أخرى فقد جاء انشغال سيلاجيتش بعلاقاته الدولية على حساب قاعدته الانتخابية. فقد ارتبط سيلاجيتش في البوسنة بعلاقاته الواسعة والوطيدة مع ملوك العالم العربي والاسلامي وحكامه خلال الثلاثين سنة الاخيرة، ولكن مشاعر الشارع المسلم في السنوات الاخيرة أصبحت تتأثر بما يقال في الصحافة عن أن البوسنة لم تستفد كما يجب من هذه العلاقات، وبخاصة مع دول الخليج، بل إن سيلاجيتش وأسرته وأصدقاءه هم من استفادوا من هذه العلاقات. ومما أثّر في الرأي العام المسلم أن خصمه الانتخابي الجديد فخر الدين رادونتشيتش كان يمثل الجيل الجديد من رجال المال والإعلام، الذي يعرف خبايا العلاقات الدولية والعامة، اذ إن مؤسسته الإعلامية المؤثرة «دنفني أفاز» ساهمت في تشويه صورة سيلاجيتش بما كانت تنشره عن ثروته واستفادته من علاقاته الدولية ومناصبه الرسمية. ومن هنا لم يكن أحد في البوسنة يتوقع، كما تكشف عن ذلك استطلاعات الرأي، أن يكون سقوط سيلاجيتش بهذه السهولة أمام رادونتشيتش أو حتى بكر عزت بيغوفيتش. فالخصم الحقيقي له كان سليمان تيهيتش رئيس «حزب العمل الديموقراطي» الذي أسّسه علي عزت بيغوفيتش، والذي زار بلغراد أخيراً وعاد منها بخطاب جديد عن «الاعتدال» و «الحوار» مع الصرب في البوسنة. ولكن نظراً الى أن تيهيتش لم يكن يتمتع بشعبية، وبخاصة بعد زيارته بلغراد حيث راج اتهامه في الشارع المسلم بكونه «عميلاً صربياً»، فقد دفع الى المقدمة بكر عزت بيغوفيتش لينافس سيلادجيتش على تمثيل المسلمين في مجلس الرئاسة. ومع أن بكر بيغوفيتش لم يرث من أبيه سوى الاسم، اذ إنه كوّن ثروة بفضل اسم أبيه وأصبح من رجال الاعمال الآن، الا أن الاسم (بيغوفيتش) بقي يشد مشاعر الناس وذكرياتهم. ولم يتردد بكر بيغوفيتش في انتقاد سيلاجيتش بكونه يمثل «الخط المتشدد» تجاه الصرب وحمّله مسؤولية إبطاء الاصلاحات في البوسنة لأن الصرب أصبحوا أكثر حذراً من المسلمين. وفي الوقت نفسه أُجريت الانتخابات في شكل روتيني عند الصرب والكروات، اذ إن استطلاعات الرأي نفسها أكّدت استمرار العضوين الصربي والكرواتي (نيبويشا رادمانوفيتش وجيلكو كومتشيتش) في منصبيهما في مجلس الرئاسة، وهو ما حصل بالفعل. ولكن السخونة الانتخابية الحقيقية كانت في «جمهورية الصرب» حيث ترشح دوديك في هذه المرة لمنصب رئيس الجمهورية ليقود «جمهورية الصرب» في المرحلة المقبلة. فخلال الانتخابات وبعدها كان دوديك يعتبر أن البوسنة «كيان مصطنع»، بل إنها «تشكلت بالخطأ أثناء تفكك يوغوسلافيا»، ولذلك فإن الثابت الوحيد بالنسبة اليه هو «جمهورية الصرب» التي لن يسمح لأحد بالانتقاص من دستورها. ومن هنا يمكن القول إن سقوط سيلاجيتش بهذه الحالة يفتح السؤال على مستقبل البوسنة. فهناك من المراقبين من يعبّر عن تشاؤمه برحيل سيلاجيتش عن الحياة السياسية بعد خسارته وخسارة حزبه المدوية، وهناك من يعبّر عن تفاؤله بذلك لكونه يفتح صفحة جديدة في العلاقات بين الصرب والمسلمين. وفي هذا السياق ذهبت الجريدة الصربية المعروفة «داناس» (عدد 5/10/2010) الى أن دوديك هو «الحزين الوحيد» لأنه بنى صعوده السياسي على وجود سيلاجيتش في سراييفو، ولم يعد هناك في سراييفو من يبرر له الاستمرار في سياسته القومية المتشددة كما أنه لن يعود أحد في سراييفو يتهم تيهيتش بكونه «عميلاً صربياً». الجواب عن هذا وذاك يحتاج الى أسابيع بل الى أشهر، حين يكتمل تنصيب البرلمان المركزي والبرلمانات الفيدرالية والاتفاق على الحكومة المركزية، والى ذلك الحين سيبقى الحذر بل التوجس سيد الموقف.